السؤال
أجبتموني في الأسئلة السابقة أن الله جل في علاه لا يحاسبنا بما يحدث داخلنا، فكيف يحاسبنا بسوء الظن، وهو يحدث بداخلنا؟ يقول تعالى: اجتنبوا كثيرًا من الظن؟ وكيف يحاسبنا على الحسد، وهو شيء نحسه داخلنا، والكبر، وغير ذلك من أمراض القلوب؟ أم هذه الأمراض كلها -وحتى سوء الظن- إن لم تتجاوز القلب، فإنه لا يحاسبنا عليها؟ وجزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا بيان أن المعفو عنه من حديث النفس هو ما يتردد فيها، ويَرِد عليها بغير اختيار، ما لم يستقر ويستمر عليه صاحبه، بخلاف الهمّ والعزم المستقر في القلب، وكذلك كل أعمال القلوب يؤاخذ عليها في الخير والشر، وراجعي في ذلك الفتوى رقم: 235318.
ولمزيد البيان ننقل هنا كلامًا مفيدًا من شرح النووي على صحيح مسلم، حيث قال: قال الإمام المازري -رحمه الله-: مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطن نفسه عليها، أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث، وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا همًّا، ويفرق بين الهم والعزم، هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين، وأخذوا بظاهر الحديث، قال القاضي عياض -رحمه الله-: عامة السلف، وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر؛ للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة، وليست السيئة التي همّ بها؛ لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى، والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية، فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله تعالى كتبت حسنة، كما في الحديث: إنما تركها من جراي ـ فصار تركه لها لخوف الله تعالى، ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك، وعصيانه هواه، فأما الهم الذي لا يكتب، فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها، ولا يصحبها عقد، ولا نية وعزم.. هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه.
وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، ومن ذلك قوله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ـ الآية، وقوله تعالى: اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ـ والآيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد، واحتقار المسلمين، وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها. اهـ.
والله أعلم.