السؤال
هل هناك حرج على المستفتي إذا كان عاميًا أن يسأل من يثق به من العلماء حتى إذا كان العالم مخطئاً؟ مع العلم أنني قد اطلعت على بعض الفتاوى التي ذكرتم فيها أن العامي ليس عليه حرج إذا سأل من يثق به، ولكن ماذا عن الآيات: 166ـ 167، من سورة البقرة: وكذلك الآيات: 31ـ 32ـ 33، من سورة سبأ، والآيات:67ـ 68، من سورة الأحزاب؟ وهل هذه الآيات تدل على أن الشخص يكون آثما إذا اتبع من يثق به؟ وهل هذه الآيات خاصة بالكفار، أم تشمل كل عامي، سواء كان سنيًا أو من أهل البدع أو من الكفار؟ وإذا كان كذلك ألا يعذر الشخص بسبب الجهل والخطأ، ولأنه ظن أنه يتبع ويقلد شخصًا موثوقًا به؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا ندري معنى قول السائلة: حتى إذا كان العالم مخطئا ـ وكيف يجمع المستفتي بين هذا الاعتقاد وبين الثقة في هذا العالم؟!! وعلى أية حال، فينبغي أن نفرق بين أنواع المسائل من حيث الوضوح والغموض، وقرب المأخذ وبُعْده، ومن حيث ما يترتب على كل مسألة من آثار، فليست مسألة تُستحلُّ بها الدماء وتُنتهَك بها الأعراض، كغيرها من المسائل، في التحري والتثبت، وعلى وجه الإجمال، فإن العامي الذي يجهل وجه الحجة، ولا يدري شيئًا عن موارد الأدلة وكيفية الاستدلال، إذا بذل وسعه في طلب الحق، والسؤال عن المؤهلين للفتوى، فأخذ عن أحدهم دون تعصب أعمى، ولا اتباع للهوى أو للرأي المجرد، بل لظنه أن ما أُفتي به هو الحق الموافق لمراد الشرع، فإنه بذلك معذور، لأنه فعل ما في وسعه مما أمر به، وقد عقد الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله بابًا عن فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتباع، ثم قال: وهذا كله لغير العامة، فإن العامة لابد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها، لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة، والله أعلم، ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها وأنهم المرادون بقول الله -عزَّ وجلَّ-: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {النحل: 43}. اهـ.
وأطال في ذلك ثم قال: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام الشريعة عالمًا يتفق له على علمه، فيصدر في ذلك عما يخبره به فمعذور، لأنه قد أتى بما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولابد له من تقليد عالم فيما جهل، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة، لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك. اهـ.
ويدل لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: من أفتي بغير علم، وفي رواية: من أفتي بفتيًا غير ثبت، كان إثمه على من أفتاه. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني.
قال القاري في مرقاة المفاتيح: يعني: كل جاهل سأل عالمًا عن مسألة، فأفتاه العالم بجواب باطل، فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانه، فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده. اهـ.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: المعنى: من أفتاه مفت عن غير ثبت من الكتاب والسنة والاستدلال، كان إثمه على من أفتاه بغير الصواب، لا على المستفتي المقلد. اهـ. وانظري الفتوى: 138799.
وقد سبق لنا التنبيه على أن محل كون الإثم على المفتي دون المستفتي -السائل- هو فيما إذا لم يتبين الحكم الشرعي للمستفتي -السائل- وراجعي في ذلك الفتوى: 16179.
وبخصوص المقلدة وعوام الطوائف المعروفة بعقائدها الكفرية، يمكنك الرجوع للفتويين: 173949، 323158.
وأما جهال الكفرة المقلدون في الكفر دون معرفة ولا علم ولا حجة، فهؤلاء وإن كانوا كفرة في الدنيا بلا خلاف، إلا أنهم في الآخرة تختلف أحوالهم، فمنهم من لا عذر له، ومنهم من يحتمل حاله العذر ويكون في حكم أهل الفترة، وقد ختم العلامة ابن القيم كتابه الفريد -طريق الهجرتين وباب السعادتين- بالتفصيل في بيان مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها، وهم ثمان عشرة طبقة، فقال في الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم، ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أُولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب، وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المُحدَث في الإسلام... فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله: إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد، فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله في القرآن في غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم وأنهم يتحاجون في النار وأن الأتباع يقولون: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ، قَالَ لِكُلِّ ضِعْفٌ وَلِكِنْ لا تَعْلَمُونَ {الأعراف: 38 }...
وذكر بعض الآيات في هذا المعنى، ومنها آيات سورة البقرة وسورة سبأ التي أشارت إليها السائلة، ثم قال: وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً ـ وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم، نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان أيضاً:
أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه، لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه... اهـ.
وبيَّن الفرق بين حالهما ومآلهما، ثم ذكر أسباب استحقاق العذاب، وأن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وراجعي بقية كلامه في الفتوى: 121195.
والله أعلم.