الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن كتاب: "حياة الصحابة" يعتبر من كتب السير، وصاحبه يعتبر من المحدثين، وله في الحديث عدة مؤلفات، وقد قدم له الشيخان: أبو الحسن الندوي، وعبد الفتاح أبو غدة، ونوّها به.
وحال هذا الكتاب مثل حال الكثير من كتب السير، التي يغلب عليها طابع الإخباريين، فلا يحصل فيها تمييز بين ما ثبت وما لم يثبت، وهذا مما يتساهل أهل العلم فيه، إن كان يتعلق بتفصيل الأحداث -كوصف لمكان غزوة، وذكر عدد المشاركين في معركة-، ومثل ذلك ما اشتمل على الترغيب في عمل من أعمال الخير ثبتت مشروعيته بدليل ثابت، ويلزم التحري فيه إن كان في حكم شرعي، أو يبنى عليه فائدة عملية؛ فيتعين حينئذ تطبيق قواعد المحدثين في نقد المرويات لمعرفة صحة الخبر، كما يتعين الرجوع إلى قواعد الاستدلال المعروفة عند أهل العلم من معرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، ونحو ذلك، فقد قال ابن سيد الناس في عيون الأثر: والذي ذهب إليه كثير من أهل العلم الترخص في الرقائق، وما لا حكم فيه من أخبار المغازي، وما يجري مجرى ذلك، وأنه يقبل فيها ما لا يقبل في الحلال والحرام؛ لعدم تعلق الأحكام بها... اهـ.
وقال ابن برهان في السيرة الحلبية: ولا يخفى أن السير تجمع الصحيح والسقيم والضعيف، والبلاغ، والمرسل، والمنقطع، والمعضل، دون الموضوع، ومن ثم قال الزين العراقي -رحمه الله-:
وليعلم الطالب أن السيرا تجمع ما صح وما قد أنكرا.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل، وغيره من الأئمة: إذا روينا في الحلال والحرام، شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها، تساهلنا. اهـ.
ويقول الإمام النووي في المجموع: قدمنا اتفاق العلماء على العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، دون الحلال والحرام. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم، وهو يتكلم عن سبب رواية الأئمة لأحاديث الضعفاء: قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب، وفضائل الأعمال، والقصص، وأحاديث الزهد، ومكارم الأخلاق، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام، وسائر الأحكام، وهذا الضرب من الحديث يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه، ورواية ما سوى الموضوع منه، والعمل به؛ لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع، معروفة عند أهله.
وعلى كل حال؛ فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئًا يحتجون به على انفراده في الأحكام... اهـ.
وقال ابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية: والذي قطع به غير واحد ممن صنف في علوم الحديث، حكاية عن العلماء، أنه يعمل بالحديث الضعيف في ما ليس فيه تحليل ولا تحريم، كالفضائل، وعن الإمام أحمد ما يوافق هذا. اهـ.
وقال محمد الحطاب المالكي في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل: اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. اهـ.
وقال شهاب الدين الرملي في فتاويه مجيبًا على فتوى وجهت إليه بشأن العمل بالحديث الضعيف، وهل يثبت به حكم؟ فقال: حكى النووي في عدة من تصانيفه إجماع أهل الحديث على العمل بالحديث الضعيف في الفضائل، ونحوها خاصة، وقال ابن عبد البر: أحاديث الفضائل لا يحتاج فيها إلى من يحتج به، وقال الحاكم: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: الخبر إذا ورد لم يحرم حلالًا، ولم يحلل حرامًا، ولم يوجب حكمًا، وكان فيه ترغيب أو ترهيب، أغمض عنه، وتسهل في روايته... اهـ.
ولكن صاحب الكتاب يستنبط من القصص السيرية، ويبوب على ما استنبطه منها، وقد أراد به تحريض الناس على اتباع الصحابة، والاهتداء بهديهم، فعلى الناظر فيه أن يعتني بما روي في الصحيحين، أو في صحيح ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم إذا وافقه الذهبي، أو بما نقل المؤلف تصحيح أو تحسين الأقدمين له، علمًا أنه قد يذكر عن الهيثمي توثيق رجال الحديث، وهذا لا يكفي؛ لأن ثقة الرجال المذكورين في السند قد يحصل معه انقطاع السند، وهذا مما يضعف الحديث به، فقد قال النووي: اتفق العلماء على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان، وتلقتهما الأمة بالقبول. اهـ.
وقال السيوطي في الألفية:
وخذه حيث حافظ عليه نص أو من مصنف بجمعه يخص
كابن خزيمة ويتلو مسلما وأوله البستى ثم الحاكما.
وقال الشيخ محمد بن علي بن آدم الأثيوبي في شرحه لألفية السيوطي: وخذه أي: الحديث الصَّحِيح الزائد عليهما، حيث حافظ من حفاظ الحديث النبوي عليه، أي: على صحته، نص، أي: عينه، وأوضحه، كأبي داود، والترمذي, والدارقطني، وغيرهم، وخذه أيضًا من كتاب مصنف: بفتح النون، بجمعه، أي: جمع الصَّحِيح، متعلق بيخص، أي: الكتب التي تختص بجمع الصَّحِيح، الذي لم يختلط بغيره.
ومعنى البيت: أنك إذا أردت أن تعرف الصَّحِيح الزائد على الصَّحِيحين، فسبيله أن ينص عليه إمام من أئمة الحديث، أو يوجد في كتاب يختص بجمعه، لا يخلط الصَّحِيح بغيره. انتهى.
والله أعلم.