السؤال
كيف استشهد ابن القيم ـ رحمه الله ـ بشبهة انتحار الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتور في مدارج السالكين: فصل إياك نعبد وإياك نستعين؟ وهل إذا نشرته آخذ ذنبًا؟
كيف استشهد ابن القيم ـ رحمه الله ـ بشبهة انتحار الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتور في مدارج السالكين: فصل إياك نعبد وإياك نستعين؟ وهل إذا نشرته آخذ ذنبًا؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: الطالب الجاد لا بد أن تعرض له فترة، فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد، ولما فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغدو إلى شواهق الجبال ليلقي نفسه، فيبدو له جبريل عليه السلام، فيقول له: إنك رسول الله، فيسكن لذلك جأشه، وتطمئن نفسه، فتخلل الفترات للسالكين: أمر لازم لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم: رجا له أن يعود خيرًا مما كان. اهـ.
وقال في موضع آخر: الفترات أمر لازم للعبد، فكل عامل له شرة، ولكل شرة فترة، فأعلاها فترة الوحي، وهي للأنبياء، وفترة الحال الخاص للعارفين، وفترة الهمة للمريدين، وفترة العمل للعابدين، وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة، والتعرفات الإلهية، وتعريف قدر النعمة، وتجديد الشوق إليها.. اهـ.
والذي يظهر لنا أن ابن القيم ذكر ذلك؛ لكونه يعتقد، أو يحتمل ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ذلك جماعة من أهل العلم من المؤرخين، والمفسرين في تفسير سورة العلق، وبعضهم في سورتي المزمل والمدثر، كما ذكره جُلُّ من صنَّف في السيرة من القدماء والمعاصرين، وتأوله بعضهم، ولم يتعقبه باقيهم، والذي يظهر لنا هو ضعف هذه الرواية ـ سندًا ومتنًا ـ كما قدمنا في الفتوى رقم: 128476.
وقال الأستاذ الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة: وليس أدل على ضعف هذه الزيادة وتهافتها من أن جبريل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم كلما أوفى بذروة جبل: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا ـ وأنه كرر ذلك مرارًا، ولو صح هذا لكانت مرة واحدة تكفي في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، وصرفه عما حدّثته به نفسه، كما زعموا. اهـ.
وقال أيضًا: ولو أن هذه الرواية كانت صحيحة؛ لأوّلناها تأويلًا مقبولًا، أما وهي على هذه الحالة، فلا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مخرج لها... ونحن لا ننكر أنه صلّى الله عليه وسلّم قد حصلت له حالة أسى وحزن عميقين على انقطاع الوحي؛ خشية أن يكون ذلك عدم رضا من الله، وهو الذي كان يهون عليه كل شيء من لأواء الحياة وشدائدها ما دام ذلك في سبيل الله، وفيه رضا الله، وهو القائل في ساعة من ساعات الكرب والضيق والشدة، لما ناله ما ناله من سفهاء ثقيف مخاطبًا ربه: إن لم يكن بك عليّ غضب، فلا أبالي!! كان يمكننا أن نقول: إنّ ظن حدوث غضب الله وسخطه، تجوّز للمخلصين من عباد الله أن يهلكوا أنفسهم، ويذهبوها ترضية لله، وخوفًا منه. اهـ.
وقد ضعفها أيضًا القاضي عياض في الشفا، ثم قال: مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر، كما ذكرناه، أو أنه فعل ذلك لما أحرجه من تكذيب من بلغه، كما قال تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا... أو خاف أن الفترة لأمر، أو سبب منه، فخشي أن تكون عقوبة من ربه، ففعل ذلك بنفسه.. ولم يَرِد بَعْد شرعٌ بالنهي عن ذلك، فيعترض به، ونحو هذا فرار يونس عليه السلام؛ خشية تكذيب قومه له لما وعدهم به من العذاب. اهـ.
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن الحافظ أبي بكر الإسماعيلي شيئًا من هذا التأويل مفصلًا، فراجعي ذلك بطوله -إن شئت-.
والمقصود أن هذه القصة لا تثبت، ومن ذكرها من أهل العلم، فله في ذلك تأويل يدور بين القبول والعذر، فإما أن يتابَع على قوله، وإما أن يعذر باجتهاده!
ومن نشر ذلك ونقله من عوام الناس، مقلدًا فيه أحدًا من أهل العلم المعتبرين، فلا إثم عليه.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني