السؤال
متى نعمل اعتبارا للمصلحة والمفسدة؟ وهل دائما ننظر بمنظور المصلحة والمفسدة في الأحكام الشرعية؟.
متى نعمل اعتبارا للمصلحة والمفسدة؟ وهل دائما ننظر بمنظور المصلحة والمفسدة في الأحكام الشرعية؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأحكام الشرعية هي نفسها الراعي الحقيقي لجلب المصالح ودرء المفاسد، والشريعة إنما بنيت على ذلك، ولا يقتصر هذا على تعارض المصالح مع المفاسد، بل يتناول أيضا مراعاة جلب أعلى المصلحتين عند التعارض، ودرء أعلى المفسدتين عند التزاحم، وإنما يحكم بذلك الراسخون في العلم، العارفون بمقاصد الشرع، المميزون لرتب الأحكام وتفاوتها! ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ونحن ننقل من كلامه ما يعين على إدراك هذا الأصل، قال رحمه الله: الورع المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته، وهو ما يعلم تحريمه، وما يشك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله، مثل فعل محرم يتعين، مثل من يترك أخذ الشبهة ورعا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينا تحريمه، أو يترك واجبا تركه أعظم فسادا من فعله مع الشبهة؛ كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة، وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه، وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع! كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا، ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع، ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع. اهـ.
وقال أيضا: الشريعة تأمر بالمصالح الخالصة والراجحة، كالإيمان والجهاد، فإن الإيمان مصلحة محضة، والجهاد وإن كان فيه قتل النفوس فمصلحته راجحة، وفتنة الكفر أعظم فسادا من القتل، كما قال تعالى: والفتنة أكبر من القتل ـ ونهى عن المفاسد الخالصة والراجحة، كما نهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعن: الإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون، وهذه الأمور لا يبيحها قط في حال من الأحوال، ولا في شرعة من الشرائع، وتحريم الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر وغير ذلك مما مفسدته راجحة، وهذا الضرب تبيحه عند الضرورة، لأن مفسدة فوات النفس أعظم من مفسدة الاغتذاء به. اهـ.
وقال أيضا: السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها... وذلك ثابت في العقل، كما يقال: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين. اهـ.
ومما ذكر في تأصيل هذا الأساس المتين، وبيان مبانيه، قوله: هو مبني على أربعة أصول:
أحدها: معرفة مراتب الحق والباطل، والحسنات والسيئات، والخير والشر، ليعرف خير الخيرين وشر الشرين.
الثاني: معرفة ما يجب من ذلك وما لا يجب، وما يستحب من ذلك وما لا يستحب.
الثالث: معرفة شروط الوجوب والاستحباب من الإمكان والعجز، وأن الوجوب والاستحباب قد يكون مشروطا بإمكان العلم والقدرة.
الرابع: معرفة أصناف المخاطبين وأعيانهم، ليؤمر كل شخص بما يصلحه أو بما هو الأصلح له من طاعة الله ورسوله، وينهى عما ينفع نهيه عنه، ولا يؤمر بخير يوقعه فيما هو شر من المنهي عنه مع الاستغناء عنه، وهذا القدر الذي دلت عليه هذه الآية من أن دين من أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم هو أحسن الأديان ـ أمر متفق عليه بين المسلمين ـ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. اهـ.
ولا ريب في أن الحاجة للموازنة بين المصالح والمفاسد تشتد في أزمنة الفتن، وظهور المنكرات، وقلة العاملين بالحق والمعينين عليه، فالحاجة عندئذ لهذا الباب من أبواب الفقه في الدين تعظم، وتصبح ملحة غاية الإلحاح، ولا يقوم بها إلا الأفذاذ من أهل العلم، قال شيخ الإسلام: وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء، ولهذا جاء في الحديث: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ـ فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل وقد يكون الواجب في بعضها كما بينته فيما تقدم: العفو عند الأمر، والنهي في بعض الأشياء، لا التحليل والإسقاط مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، ومثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر، فالعالم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح، أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح ـ كما تقدم ـ بحسب الإمكان، فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه، فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن؛ كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما إلى بيانها، يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ـ والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع ـ فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع، ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل. والله أعلم. اهـ.
وهنا ننبه على أن العالم وإن كان لا ينفك عن النظر والموازنة بين المصالح والمفاسد، إلا أن تقرير ذلك والعلم بمراتبه يرجع في الجملة إلى أدلة الشرع، لا إلى الآراء المجردة وأهواء النفوس، قال العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ في قواعد الأحكام: مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها. اهـ.
وراجع للأهمية الفتويين رقم: 55679، ورقم: 71311.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني