الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسؤالك يشتمل على ثلاث مسائل:
الأولى: هي شراؤك السلعة وتركها في مستودع البائع ثم بيعها، فإذا كنت قد قبضت هذه السلعة فلا شيء عليك في بيعها، ولو كانت في مستودع البائع. ومعاينتها من غير حيازة لا تعد قبضًا، بل القبض هو نقلها من مكانها الذي هي فيه ولو بقيت مودعة عند التاجر نفسه، فالمهم هو نقلها من ذلك المكان ولو إلى زاوية غير الزاوية التي كانت فيها.
أما إذا كنت لم تقبضها، فإنه لا يجوز لك بيعها حتى تقبضها، لحديث حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله إني اشتريت بيوعاً، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: يا ابن أخي إذا اشتريت منها بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه. رواه أحمد، ولحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. أخرجه أبو داود.
وحيث إن السلع التي ذكرتها هي من المطعومات، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يجوز بيعها قبل قبضها.
قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من اشترى طعاماً فليس له بيعه حتى يستوفيه. نقله عنه ابن قدامة في المغني.
وإذا كانت السلع من غير المطعومات، فمذهب جمهور العلماء أنها كالمطعومات، وخالف المالكية فقالوا: إن النهي عن بيع الشيء قبل قبضه خاص في المطعومات لحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه. رواه مسلم. قالوا: فهذا الحديث يخصص العموم الوارد في الأحاديث الأخرى. وقال الجمهور: بل هو من باب ذكر بعض أفراد العام، وهو الأقرب.
والثانية: هي حكم الاستقطاع البنكي، والأصل فيه الجواز؛ لأنه عبارة عن حوالة، لكن إذا كان هذا الاستقطاع عبر البنك الربوي، ففيه إعانة لهم على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وأخذ البنك مبلغًا محددًا - لا يزيد ولا ينقص بزيادة نسبة القسط ونقصانها - مقابل عملية الاستقطاع، لا حرج فيه؛ لأن ذلك من قبيل الإجارة. والأفضل أن يكون وفاء الأقساط عن طريق الشيكات.
والثالثة: هي بيع الشخص الذي يشتري منك السلعة لصاحب المستودع الذي اشتريت أنت منه هذه السلعة، فإذا كان سيبيعها له بنفس الثمن الذي اشترى به أو بزيادة، فلا إشكال، وإذا كان سيبيعها له بأقل من المبلغ الذي اشترى به، فهذه من صور العينة، إلا أنها من العينة المباحة.
قال السبكي في شرحه على المهذب: وفسر أبو عبيد العينة: هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به، قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها، ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى، ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن، فهذه أيضاً عينة، وهي أهون من الأولى، وهو جائز عند بعضهم، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة... انتهى كلام العدوي.
قال السبكي: وجعله اسم العينة يشمل الأمرين مختلفون فيه، منهم من جعل العينة اسمًا للثاني فقط ويسمي الأول الذي نحن فيه شراء ما باع، وهذا صنيع الحنفية وعبارتهم.. ويصحح الحنفية الثاني المسمى عندهم بالعينة دون الأول، وكذلك إطلاق أصحابنا وإليه جنح المالكيون...اهـ.
وقال البابرتي الحنفي في شرح الهداية:وحاصل ذلك، أن شراء ما باع لا يخلو من أوجه: إما أن يكون من المشتري بلا واسطة أو بواسطة شخص آخر، والثاني جائز بالاتفاق مطلقًا - أعني سواء اشترى بالثمن الأول أو بأنقص أو بأكثر أو بالعوض - والأول إما أن يكون بأقل أو غيره أو بغيره، والثاني بأقسامه جائز بالاتفاق، والأول هو المختلف فيه...اهـ.
وأجاز المالكية هذه الصورة ما لم يكن البيع الثاني في مجلس العقد الأول، وما لم تكن هناك حيلة. ففي مواهب الجليل: قولنا من مشتريه احتراز مما إذا باع المشتري لثالث، ثم اشتراه البائع الأول من الثالث، إلا أن يكون الثالث ابتاعه من المشتري بالمجلس بعد القبض، تم ابتاعه الأول منه بعد ذلك في موضع واحد فيمنع.
قال ابن رشد: لاحتمال أن يكونا إنما أدخلا هذا الرجل بينهما لبعد التهمة عن أنفسهما، ولا تبعد عنهما به؛ لأن التحيل به يمكن...اهـ.
ومذهب الحنابلة كمذهب المالكية، حيث قال في كشاف القناع: ولو اشتراها بائعها من مشتريها، كما لو اشتراها من وارثه أو ممن انتقلت إليه منه ببيع أو نحوه، جاز لعدم المنع، أو اشتراها بائعها بمثل الثمن الأول أو بنقد آخر غير الذي باعها به، أو اشتراها بعرض أو باعها بعرض، ثم اشتراها بنقد، صح الشراء ولم يحرم لانتفاء الربا المتوسل إليه به. اهـ.
قال في مطالب أولي النهى: ولا يصح شراؤها لأحد ممن ذكر ولا غيرهم بقصد الحيلة...اهـ.
والله أعلم.