السؤال
هل مضاعفة الله للأجر محض فضل من الله-أقصد أنه قد يزيد لفلان، ولا يضاعف لآخر-؟ أم إن هناك اعتبارات من الممكن فعلها للمضاعفة -حسب الحاجة للصدقة، أو الإخلاص، أو هكذا-؟
هل مضاعفة الله للأجر محض فضل من الله-أقصد أنه قد يزيد لفلان، ولا يضاعف لآخر-؟ أم إن هناك اعتبارات من الممكن فعلها للمضاعفة -حسب الحاجة للصدقة، أو الإخلاص، أو هكذا-؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية: ننبه على أن مجرد التوفيق للأعمال الصالحة إنما هي بفضل الله، ورحمته بعبده، كما قال سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ {النور:21}؛ ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم.
فإذا كان هذا في أصل العمل، فهو في المثوبة عليه أظهر وأوضح، فالثواب كذلك من فضل الله تعالى؛ لأنه سبحانه مستحق للعبادة والشكر، ولكنه سبحانه يتفضل على عباده بالمثوبة من غير استحقاق عليه بذلك، ثم يزيدهم سبحانه من فضله بمضاعفة الأجر والثواب، كما قال تعالى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {البقرة: 261}، وقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ {الأنعام:160}، قال الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: معنى الآية من غامض المعاني التي عند أهل اللغة؛ لأن المجازاة على الحسنة من اللَّه جلَّ ثناؤُه بدخول الجنة شيء لا يُبْلَغُ وصفُ مِقْدارِه، فإذا قال: {عَشْرُ أمثَالها}، أو قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}، مع قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}، فمعنى هذا كله أن جزاءَ اللَّه جلَّ ثناؤُه على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد الذي هو النهاية في التقدير في النفوس، ويضاعف الله ذلك بما بين عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إِلى أضعاف كثيرة. اهـ.
ونقل ذلك الطيبي في حاشيته على الكشاف، ثم قال: فعلى هذا؛ لا يتصور في الحسنات إلا الفضل. اهـ. وذلك في تعليقه على قول الزمخشري في الكشاف: مضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل. اهـ.
وقال القرطبي في التذكرة: يحتمل أن يكون قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} خاصًّا في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله عز وجل: "إذا همّ عبدي بحسنة ولم يعملها، كتبتها له حسنة، فإن عملها، كتبتها له عشرًا إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها، كتبتها سيئة واحدة»، والقرآن دال على هذا، قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، وقال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} الآية، وقال في الآية الأخرى: {كمثل جنة بربوة}، وقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً}، وهذا كله تفضل من الله تعالى، وطريق العدل: {أن ليس للإنسان إلا ما سعى}، إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لم يجب له، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه: كتب لهم بالحسنة الواحدة: عشرًا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة، كما قيل لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «أن الله ليجزي عن الحسنة الواحدة: ألف ألف حسنة»، فقال: سمعته يقول: «إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة: ألفي ألف حسنة»، فهذا تفضل، وقد تفضل الله على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل، فما ظنك بعمل المؤمن عن نفسه أو عن غيره!؟ اهـ.
والمقصود أن زيادة الأجر ومضاعفة الثواب، إنما هو من محض فضل الله تعالى، يؤتيه من يشاء بغير حساب، قال تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 38]، وقال: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:30]، وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 173]، قال في تفسير المنار: أي: يعطيهم أجورهم على إيمانهم وعملهم الصالح وافية تامة كما يستحقون، بحسب سنته -تعالى- في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء. اهـ.
وعلى ذلك؛ فالحكم على مبدأ التضعيف بكونه من محض فضل الله تعالى ظاهر لا يخفى.
وهذا الفضل متعلق بمشيئة الله، يؤتيه من يشاء سبحانه، كما نص عليه القرآن، في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:73]، وقوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، وقوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] [الجمعة:4]، وقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29]، قال القرطبي -فيما نقله عنه المناوي في فيض القدير-: الأجر على الأعمال إنما هو بفضل الله، يهب لمن يشاء على أي فعل شاء. اهـ.
ومع ذلك، فلا بد من التنبيه على أن مشيئة الله تعالى ليست مشيئة مجردة، بل مقترنة بالحكمة البالغة؛ ولذلك ذكر الشيخ ابن عثيمين في فوائد قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261] قال: ومنها: إثبات مشيئة الله؛ لقوله تعالى: {لمن يشاء}؛ ولكن هل هذه المشيئة مشيئة مجردة؛ أي: أن الترجيح يكون فيها بدون سبب؛ أو هي مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة والحكمة؟
الجواب: أنها مشيئة مقيدة بما تقتضيه المصلحة والحكمة؛ وعليه؛ فخذ هذا مقياسًا: كل شيء علّقه الله على المشيئة، فإنه مقيد بالحكمة؛ ودليله قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا} [الإنسان:30]، ومنها: أن الله له السلطان المطلق في خلقه؛ ولا أحد يعترض عليه؛ لقوله تعالى: {يضاعف لمن يشاء}؛ ولهذا لما تناظر رجل من المعتزلة، وآخر من أهل السنة، قال له المعتزلي: أرأيت إن منعني الهدى، وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟ - يريد أن يبين أن أفعال العباد لا تدخل في إرادة الله؛ لأنه إذا دخلت في إرادة الله فإن هذا الذي قضى عليه بالشقاء، ومنع الهدى يكون إساءة من الله إليه!- فقال له السني: إن منعك ما هو لك، فقد أساء؛ وإن منعك فضله، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. فغُلب المعتزلي؛ لأنه ليس لك حق على الله واجب؛ والله سبحانه وتعالى يؤتي فضله من يشاء. اهـ.
ومن موارد هذه الحكمة في مضاعفة الأجر: اقترانها بسبب معقول المعنى، في النصوص الشرعية وأقوال أهل العلم؛ وذلك بحسب العمل، وثمرته، وعاقبته، وبحسب حال العامل، وبحسب زمان العمل ومكانه، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: مضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام، كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث أبي هريرة، وغيره، وتكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسب فضل ذلك العمل في نفسه، وبحسب الحاجة إليه. اهـ.
وقال ابن العربي في شرح موطأ مالك: ذلك من فضل الله على حسب ما يعلم من الصدق في النيات، وخلوص الطويات، والرغبة في الخيرات، والمواظبة على الصالحات. اهـ.
وقال السعدي في بهجة قلوب الأبرار: جميع الأعمال الصالحة - من أقوال وأفعال، ظاهرة أو باطنة، سواء تعلقت بحق الله، أو بحقوق العباد - مضاعفة من عشر إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وهذا من أعظم ما يدل على سعة فضل الله، وإحسانه على عباده المؤمنين؛ إذ جعل جناياتهم ومخالفاتهم الواحدة بجزاء واحد، ومغفرة الله تعالى فوق ذلك. وأما الحسنة: فأقل التضعيف أن الواحدة بعشر، وقد تزيد على ذلك بأسباب، منها: قوة إيمان العامل، وكمال إخلاصه، فكلما قوي الإيمان والإخلاص تضاعف ثواب العمل. ومنها: أن يكون للعمل موقع كبير، كالنفقة في الجهاد والعلم، والمشاريع الدينية العامة، وكالعمل الذي قوي بحسنه وقوته ودفعه المعارضات، كما ذكره صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الغار، وقصة البغيّ التي سقت الكلب، فشكر الله لها، وغفر لها. ومثل العمل الذي يثمر أعمالًا أخر، ويقتدي به غيره، أو يشاركه فيه مشارك، وكدفع الضرورات العظيمة، وحصول المبرات الكبيرة، وكالمضاعفة لفضل الزمان أو المكان، أو العامل عند الله. فهذه المضاعفات كلها شاملة لكل عمل. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني