الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فـ (ماذا) في اللغة العربية تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون بجملتها كلمة واحدة على اعتبار أنها كلها أداة استفهام، أو اسم جنس بمعنى شيء، وعلى هذا؛ فتوصل "ما" بـ"ذا" من غير فاصل بينهما.
الثاني: أن تكون كلمتين، على اعتبار أن "ما" استفهامية، و"ذا" موصولية، أو زائدة، أو نحو ذلك، وعلى هذا؛ فتفصل "ما" عن "ذا".
وهي في الآية التي ذكرت تحتمل الوجهين، قال ابن عطية في المحرر الوجيز: و«ما» استفهام و«ذا» بمعنى الذي، فهما ابتداء وخبر، وفي تَأْمُرُونَ ضمير عائد على الذي، تقديره: تأمرون به، ويجوز أن تجعل: فَماذا بمنزلة اسم واحد في موضع نصب بـ (تَأْمُرُونَ)، ولا يضمر فيه على هذا. اهـ.
وبناء على ما سبق؛ فيمكن أن يكون كل من كاتبي المصحفين راعى أحد الاحتمالين.
وفي الختام: ننقل لك كلاما نفيسًا لابن الجزري تتمة للفائدة، قال في النشر:
(الثَّامِنُ) قَدْ يَقَعُ فِي الرَّسْمِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَأَنْ يَكُونَ كَلِمَتَيْنِ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ نَحْوَ: (مَاذَا) يَأْتِي فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ.
(الْأَوَّلُ): مَا اسْتِفْهَامٌ وَذَا إِشَارَةٌ.
(الثَّانِي): مَا اسْتِفْهَامٌ وَذَا مَوْصُولَةٌ.
(الثَّالِثُ): أَنْ يَكُونَ كِلَاهُمَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى التَّرْكِيبِ.
(الرَّابِعُ): مَاذَا كُلُّهُ اسْمُ جِنْسٍ بِمَعْنَى شَيْءٍ.
(الْخَامِسُ): مَا زَائِدَةٌ وَذَا إِشَارَةٌ.
(السَّادِسُ): مَا اسْتِفْهَامٌ وَذَا زَائِدَةٌ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ:
فَمَنْ قَرَأَ الْعَفْوَ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو، يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ مَاذَا كَلِمَتَيْنِ: مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَذَا بِمَعْنَى الَّذِي: أَيِ: الَّذِي يُنْفِقُونَ الْعَفْوُ، فَيَجُوزُ لَهُ الْوَقْفُ عَلَى مَا، وَعَلَى ذَا.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ: يَتَرَجَّحُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبَةً كَلِمَةً وَاحِدَةً، أَيْ: يُنْفِقُونَ الْعَفْوَ، فَلَا يَقِفُ إِلَّا عَلَى ذَا.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. فَهِيَ كَقِرَاءَة أَبِي عَمْرٍو (الْعَفْوُ) أَيْ: مَا الَّذِي أَنْزَلَ، قَالُوا: الَّذِي أَنْزَلَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَتَكُونُ كَلِمَتَيْنِ، يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا لِكُلٍّ مِنَ الْقُرَّاء.
(وَقَوْلُهُ): (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) هِيَ كَقِرَاءَةِ غَيْرِ أَبِي عَمْرٍو (الْعَفْوَ) بِالنَّصْبِ، فَيَتَرَجَّحُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَيُوقَفُ عَلَى "ذَا" دُونَ "مَا".
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا" فذكروا فِيهَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ "مَا" اسْتِفْهَامٌ مَوْضِعُهَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ، وَ"ذَا" بِمَعْنَى الَّذِي، و"أَرَادَ" صِلَتُهُ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، وَالَّذِي وَصِلَتُهَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا وذا اسْمٌ وَاحِدٌ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَمَوْضِعُهُ نُصِبَ بِأَرَادَ.
(قُلْتُ) : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا وَذَا إِشَارَةً، كَقَوْلِهِمْ: مَاذَا التَّوَانِي، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَاذَا الْوُقُوفُ عَلَى نَارٍ وَقَدْ خَمُدَتْ ... يَا طَالَ مَا أُوقِدَتْ لِلْحَرْبِ نِيرَانُ.
فَعَلَى هَذَا، وَعَلَى الْأَوَّلِ هُمَا كَلِمَتَانِ يُوقَفُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَعَلَى الثَّانِي يُوقَفُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُمَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَذَلِكَ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ وَالِاخْتِبَارِ، لَا عَلَى التَّعَمُّدِ وَالِاخْتِيَارِ.
(نَعَمْ) عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ يَجُوزُ اخْتِيَارًا، وَيَكُونُ كَافِيًا عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِيَقُولُونَ، وَيَكُونَ أَرَادَ اللَّهُ اسْتِئْنَافًا وَجَوَابًا لِقَوْلِهِمْ. اهـ.
والله أعلم.