السؤال
لقد تغير حال الناس الآن عما كان عليه من قبل، وتطور العلم، والأسلحة، ويكاد المريض لا يشعر بالألم بسبب المسكنات، والشهيد لا يشعر بالألم من سرعة الرصاص، فهل يثاب الناس كما يثاب من قبلهم، أم تنقص أجورهم؟ وإذا وصلنا إلى مرحلة متقدمة من العلم، تجعل الإنسان بالكاد يشعر بالألم، أو المرض، أو جاهد واستشهد بلا ألم، فهل ينقص أجره؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فأما الشهيد فإنه لا ينقص أجره بسبب خفة الموت عليه؛ لأنه أصلًا لا يجد شدة الألم عند موته، بغض النظر عن الوسيلة التي قُتِلَ بها، ففي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ، إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ. رواه الترمذي، وابن ماجه.
قال المناوي: الشهيد لا يجد ألم القتل، إلا كما يجد أحدكم مس القرصة. بمعنى أنه تعالى يهون عليه الموت، ويكفيه سكراته، وكربه. اهـ.
والقول بأن الموت بالرصاص أخف ألمًا، هذا ربما لا يكون صحيحًا؛ فإن الرصاص يقطع من جسم الإنسان وأعضائه الداخلية ما لم تكن تصل إليه الأسلحة في القديم، ومنه ما يدخل وينفجر في جسم المصاب، والحرق الذي تحدثه القنابل والأسلحة الفتاكة في العصر الحديث، أكثر إيلامًا وتمزيقًا للأجساد.
وأما نقصان الثواب على المرض بتعاطي المسكنات، فقد سبق أن بينا في الفتوى رقم: 259342 أن تعاطي المسكنات داخل في التداوي، وهل يثاب المريض لو تداوي، والذي يمكن إضافته هنا أمران:
أولهما: أن الأجر يزداد بزيادة المرض وشدته، كما يدل عليه حديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في الصحيحين- قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ: «أَجَلْ، كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ» قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا».
قال الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّ الْمَرَضَ إِذَا اشْتَدَّ ضَاعَفَ الْأَجْرَ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ تُحَطَّ السَّيِّئَاتُ كُلُّهَا. أَوِ الْمَعْنَى قَالَ: نَعَمْ، شِدَّةُ الْمَرَضِ تَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَتَحُطُّ الْخَطِيئَاتِ أَيْضًا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهَا شَيْءٌ .. اهـ.
والمرض كلما تفرق في البدن أكثر، زاد الأجر عليه؛ ففي سنن البيهقي، ومصنف ابن أبي شيبة -واللفظ له- موقوفًا، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَا مِنْ وَجَعٍ يُصِيبُنِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحُمَّى؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنِ ابْنِ آدَمَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيُعْطِي كُلَّ مَفْصِلٍ قِسْطًا مِنَ الْأَجْرِ.
ثانيهما: أن الشرع دل أيضًا على أن ثواب من ترك التداوي، وعلم من نفسه الصبر، أعظم من ثواب من مرض وتداوى، كما في حديث الْمَرْأَة السَّوْدَاء التي أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» قَالَتْ: أَصْبِرُ ... إلخ، والحديث في الصحيحين.
قال الحافظ في الفتح: وَفِي الْحَدِيثِ فَضْلُ مَنْ يُصْرَعُ، وَأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى بَلَايَا الدُّنْيَا يُورِثُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ الْأَخْذَ بِالشِّدَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الطَّاقَةَ، وَلَمْ يَضْعُفْ عَنِ الْتِزَامِ الشِّدَّةِ .... اهـ.
وهذا التفاضل في الثواب ليس بين عصرنا وبين أهل العصور السابقة، بل حتى بين أهل عصرنا، فإن من ترك أخذ المسكنات مع صبره وثباته، أعظم أجرًا ممن تداوى بأخذ المسكنات، وغيرها، وانظر التفصيل في الفتوى رقم: 250723 عن المفاضلة بين التداوي وتركه، وماهية ترتيب المثوبات على الأسقام والمصائب، والفتوى رقم: 131487عن استعمال الحقنة المسكنة.
والله تعالى أعلم.