الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يرزقنا وإياك الإخلاص في القول، والعمل.
واعلمي أن محبة المدح والثناء جبلة للإنسان، ولا يذم عليه بمجرده، وإنما المذموم هو أن يعمل المرء العبادة والعمل الصالح من أجل ثناء الناس ومدحهم.
ومن المهم أن تتنبهي إلى أن من عمل العبادة ابتغاء وجه الله جل وعلا، ثم عرضت له خواطر إرادة مدح الناس له بعمله، فجاهدها، ولم يركن إليها، فلا يقدح ذلك في نيته، قال ابن رجب: واعلم أن العمل لغير الله أقسام:
فتارة يكون رياء محضًا، بحيث لا يراد به سوى مراآت المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله - عز وجل -: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة، والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله، والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وحبوطه أيضًا. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشريكه))، وخرجه ابن ماجه، ولفظه: ((فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)).
وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء:
فإن كان خاطرًا ودفعه، فلا يضره بغير خلاف.
وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازى على أصل نيته؟
في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري، وغيره.
ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في "مراسيله" عن عطاء الخراساني: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: ((كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا)).
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره بأوله، كالصلاة، والصيام، والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.
فأما إذا عمل العمل لله خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك، لم يضره ذلك.
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير، ويحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بشرى المؤمن)). خرجه مسلم، وخرجه ابن ماجه، وعنده: الرجل يعمل العمل لله، فيحبه الناس عليه. اهـ. باختصار من جامع العلوم والحكم.
والنفس البشرية ضعيفة مشحونة بالآفات، وتتطلب حظوظها العاجلة من الأعمال؛ لذا كان الإخلاص من أشق الأشياء، ولا يتم إلا بمجاهدة للنفس، وترويضها، فعن سفيان الثوري، قال: ما عالجت شيئًا أشدّ عليّ من نيتي؛ لأنها تنقلب عليّ. وعن يوسف بن أسباط، قال: تخليص النية من فسادها، أشد على العاملين من طول الاجتهاد. -ذكرهما ابن رجب في جامع العلوم والحكم-.
فلا ينبغي أن يضجر المسلم من مجاهدة نفسه، ومدافعته لوساوس الرياء، فهذه المجاهدة عبادة، يؤجر عليها، ويتقرب بها إلى مولاه، ويزداد بها إخلاصًا، وبعدًا عن الرياء في مستقبل أيامه.
ودفع خواطر الرياء يتحقق بالاستعاذة بالله منها، وعدم الركون إليها، وقد جاء في حديث معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أبا بكر، للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل»، فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهًا آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟» قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
ويحسن التنبيه إلى أن المؤمن وإن كان من شأنه أن يحاسب نفسه، ويتهم نيته، ويخشى من الرياء، لكنه يقتصد في محاسبته لنفسه، ولا يغلو في تقريعها، وتأنيبها، فإن ذلك قد ينتهي إلى به اليأس، والقنوط، وترك الأعمال الصالحة؛ بحجة خوف الرياء، وهذا من حيل الشيطان ومكره بابن آدم.
ومما ينبه عليه: أن الرياء المحرم في الأصل إنما يختص بالعبادات المحضة، كالصلاة، والذكر، والصدقة، نحوها، لا بالعادات التي تقع عبادة بالنية، كحسن الخلق مع الناس، كما بيناه في الفتوى: 174409.
وأما كيفية إيقاع نية العمل الصالح: فهي لا تحتاج إلى تلفظ، ولا غيره، فالنية تابعة للعلم، فمن علم أنه سيفعل عبادة معينة، فقد نواها، قال ابن تيمية: تنازع العلماء هل يستحب اللفظ بالنية؟ على قولين:
فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد: يستحب التلفظ بها؛ لكونه أوكد.
وقالت طائفة من أصحاب مالك، وأحمد، وغيرهما: لا يستحب التلفظ بها؛ لأن ذلك بدعة، لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا من أمته أن يلفظ بالنية، ولا علم ذلك أحدًا من المسلمين، ولو كان هذا مشروعًا لم يهمله النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، مع أن الأمة مبتلاة به كل يوم وليلة.
وهذا القول أصح، بل التلفظ بالنية نقص في العقل، والدين: أما في الدين، فلأنه بدعة، وأما في العقل، فلأن هذا بمنزلة من يريد أكل الطعام، فقال: أنوي بوضع يدي في هذا الإناء أني آخذ منه لقمة، فأضعها في فمي، فأمضغها، ثم أبلعها لأشبع، فهذا حمق وجهل؛ وذلك أن النية تتبع العلم، فمتى علم العبد ما يفعل، كان قد نواه ضرورة، فلا يتصور مع وجود العلم به أن لا تحصل نية. اهـ.
والله أعلم.