السؤال
يقول الإمام ابن تيمية: "وجوه أهل السنَّة والطاعة كلَّما كبروا، ازداد حسنها وبهاؤها؛ حتَّى يكون أحدهم في كبره، أحسن وأجمل منه في صغره"، فكيف يتم التوفيق بين الواقع والعلم: أنه كلما ازداد الشخص في السن، تذهب وسامته، أو يزداد قبحه، مهما كان تقواه -والنادر لا حكم له- وبين كلامه؟
والظاهر اْنه لا يتعارض حيث يقول: فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن له من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالأمر كما أشار إليه السائل في آخر كلامه! فليس هناك تعارض؛ لأن هذا النوع من الجمال لا يراد به الجمال الحسي، الذي يتفق الناس في الغالب على مقاييسه، وإنما هو جمال باطني معنوي، تُكسى به الصورة بهاء، وحلاوة من غير أسباب ظاهرة؛ ولذلك قال شيخ الإسلام قبل الكلام الذي نقله السائل من كتاب الاستقامة: فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن (له) من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله، وبهاؤه؛ حتى ظهر ذلك على صورته. اهـ.
فذكر أن صورته الحسية ليست حسنة، وهذا باعتبار المقياس الحسي للجمال، ولكن الأعمال الصالحة كسته جمالًا، وبهاء يُدرَك من غير سبب ظاهر، فصورته هي هي بملامحها، ولكن تظهر في أعين الناس أبهى، وأجمل؛ من أثر نور الإيمان، والعمل الصالح؛ ولذلك قال شيخ الإسلام نفسه في كتاب: منهاج السنة النبوية: المؤمن الذي نوّر الله قلبه بالإيمان، يظهر نور الإيمان على وجهه، ويكسى محبة، ومهابة، والمنافق بالعكس.
وأما الصورة المجردة، سواء كانت حسنة مشتهاة .. أو لم تكن مشتهاة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم" ... وقال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ... قال المفسرون: وصفهم الله بحسن الصورة، وإبانة المنطق ... فصاحب الصورة الجميلة إذا كان من أهل هذه الأعمال التي يبغضها الله، كان الله يبغضه، ولا يحبه لجماله، فإن الله لا ينظر إلى صورته، وإنما ينظر إلى قلبه، وعمله. اهـ.
ففرَّق -رحمه الله- بين الصورة المجردة، وبين الصورة المكتسية بأثر أعمال صاحبها وحاله.
وقد أوضح ذلك ابن القيم في روضة المحبين، فقال: اعلم أن الجمال ينقسم قسمين: ظاهر، وباطن: فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم، والعقل، والجود، والعفة، والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله من عبده، وموضع محبته، كما في الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم"، وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة، وإن لم تكن ذات جمال، فتكسوا صاحبها من الجمال، والمهابة، والحلاوة، بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابة، وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة، من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود، أو غير جميل، ولا سيما إذا رزق حظًّا من صلاة الليل؛ فإنها تنور الوجه، وتحسنه ... وكما أن الجمال الباطن من أعظم نعم الله تعالى على عبده، فالجمال الظاهر نعمة منه أيضًا على عبده يوجب شكرًا، فإن شكره بتقواه، وصيانته، ازداد جمالًا على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه، قلبه له شينًا ظاهرًا في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة، وقبحًا، وشينًا، وينفر عنه من رآه، فكل من لم يتق الله عز وجل في حسنه، وجماله، انقلب قبحًا، وشينًا يشينه به بين الناس، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر ويستره، وقبح الباطن يعلو جمال الظاهر ويستره. اهـ.
والله أعلم.