السؤال
هل القسم على أمر وإخلافه، ثم التوبة وعدم الرجوع إليه، يستوجب عقاب الفضح يوم القيامة؟
وهل يجب أن يتحلل الشخص من الآخر الذي أحنث قسمه معه؟
وعن الأفعال هل سيفضح يوم القيامة حتى لو تاب عنها؟ لأنه حصل وفضح نفسه كما ورد: "وهذا وإن كان هو الأصل أو الغالب، إلا أن حكمة الله تعالى قد تقتضي في بعض الأحيان في حق بعض الناس أن يرفع الله عنه ستره، ويظهر عيبه أو ذنبه لبعض خلقه، إما تعجيلا للعقوبة، أو تنبيها وزجرا للمؤمن، أو عبرة لمن يعتبر، أو غير ذلك من الحكم التي لا نحيط بها علما، فيبقى المؤمن راجيا عفو الله وستره"
وهنا لا أفهم المعنى هل يستر الله فقط التي سترها في الدنيا، والتي كشفت في الدنيا وتاب عنها العبد هل سيفضحها الله؟ أم القصد بها الذنوب المجاهر بها؟؟!
قال ابن حجر في (فتح الباري): العصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين: أحدهما: من معصيته بينه وبين ربه، فدل حديث ابن عمر على أن هذا القسم على قسمين:
قسم: تكون معصيته مستورة في الدنيا، فهذا الذي يسترها الله عليه في القيامة، وهو بالمنطوق.
وقسم: تكون معصيته مجاهرة، فدل مفهومه على أنه بخلاف ذلك. اهـ.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فههنا أمور:
أولها: أن الحنث في اليمين ليس معصية، إلا إذا حلف الشخص على فعل واجب، أو ترك حرام. فيجب عليه البر في تلك اليمين، ثم إذا حنث فعليه كفارة يمين بكل حال.
وإذا لم يكن الحلف على فعل واجب أو ترك حرام، فللشخص أن يحنث في يمينه، لكن الأولى أن يبر بها، إلا إن كان الحنث خيرا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين، ثم رأى غيرها خيرا منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه. متفق عليه.
ثانيا: إبرار المقسم ليس واجبا بل هو مستحب، فمن حلف عليه آخر فحنثه في هذه اليمين، لم يكن آثما بذلك، ولا يجب عليه استحلال ذلك الشخص، وإنما تجب الكفارة على الحالف.
قال الموفق ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: فَإِنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا، أَوْ لَا يَفْعَلُ. أَوْ حَلَفَ عَلَى حَاضِرٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، فَأَحْنَثَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ، فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ. كَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْحَانِثُ، فَكَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلَ لِمَا يُحْنِثُهُ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ إمَّا الْيَمِينُ، وَإِمَّا الْحِنْثُ، أَوْ هُمَا، وَأَيُّ ذَلِكَ قُدِّرَ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِفِ. وَإِنْ قَالَ: أَسْأَلُك بِاَللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ. وَأَرَادَ الْيَمِينَ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا... ثم قال: وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم، رواه البخاري، وهذا -وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَقْسَمْت عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُخْبِرَنِّي بِمَا أَصَبْت مِمَّا أَخْطَأْت. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْسِمْ يَا أَبَا بَكْرٍ» وَلَمْ يُخْبِرْهُ. وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إبْرَارُهُ لَأَخْبَرَهُ. انتهى.
ثالثا: من تاب من ذنب، فإنه لا يفضح به، ولا يستحق عقوبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال ابن تيمية: ونحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا شرعا ولا قدرا. انتهى.
وعليه؛ فمن تاب توبة صادقة نصوحا لن يفضحه الله في الآخرة، ويرجى كذلك ألا يتعرض للفضيحة في الدنيا.
وأما كلام ابن حجر المنقول فهو في العصاة غير التائبين، فمن كان منهم مجاهرا بمعصيته فإنه يفتضح بها يوم القيامة، وأما التائبون فليسوا داخلين في هذا الوعيد؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
والله أعلم.