السؤال
دائما نقول إن أصح كتاب بعد القرآن هو صحيح البخاري ومسلم. ولكن هناك حديث في صحيح مسلم أشكل علي، وشككني في صحة أحاديثه، وهو: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها ولحمها وجلدها وعظمها.
فسبحان الله، حاشا لرسول الله أن يقول هذا الكلام الكفري المخالف للقرآن. فماذا بقي لله بعد كل هذا كي يخلقه في الجنين؟ أليس الله هو وحده الخالق والمصور؟ فالخلق له معنيان: الصنع من مادة معينة، مثلما كان المسيح يصنع من الطين طيرا. وهذا يقدر عليه عامة الناس. أو الإيجاد من العدم، وهذا لا يقدر عليه إلا الله. فبالله عليكم النطفة في الرحم لم يكن لها سمع وبصر ولحم ودم. فكيف أوجد الملك هذه الأشياء من العدم، ليجعلها في النطفة؟ ثم أليس الله سبحانه يحاجنا دائما في القرآن بأنه هو من خلقنا ورزقنا؛ لكي نعبده وحده ولا نشرك به، كما في قوله تعالى: قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده.
ومعلوم أن قريش كانت تعبد الملائكة، فلو كانت الملائكة تخلق لما حاجهم الله بهذه الآية، فقريش كانوا مع شركهم يؤمنون بأن الله هو الذي خلقهم وحده. وحتى اليهود والنصارى والبوذيون يؤمنون بأن الذي يخلق الجنين هو الله وحده من غير توسط أحد.
فهل هذه عقيدة باطلة؟ نحن الذين ندعي أننا مسلمون هل يعقل أن نعتقد أن من يخلق الجنين في بطن أمه، وخلق جميع البشر في مختلف أنحاء العالم باختلاف ألوانهم وأشكالهم هم الملائكة -أعوذ بالله من هذا الاعتقاد- أليس من يؤمن بهذا الحديث أشد كفرا من اليهود وعباد الصليب، ثم بالله عليكم أليست هذه العقيدة تروج لعبادة الملائكة. فما داموا هم الذين خلقونا فلماذا لا نعبدهم ونصلي لهم؟
ثم لا يصح أن نقول إن هذا الملك يخلق الجنين بتقدير الله له، فهو سبحانه يقول: هل من خالق غير الله يرزقكم من السموات والأرض.
وما من خالق إلا الله.
فهل هذا الحديث المكذوب مدسوس في صحيح مسلم، أم أن الإمام مسلما وضع هذا الحديث في صحيحه وهو مؤمن به، فيكون كافرا والعياذ بالله؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس في الحديث إشكال بحمد الله، يوجب هذا التهويل الذي هولته، فإن الملك لا يخلق شيئا استقلالا، ولا يوجد شيئا من العدم. والحديث واضح بمجموع رواياته في أن تصرف الملك في النطفة إنما هو بأمر الله له بذلك، والدليل على ذلك واضح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا. فهو مبعوث مأمور.
ولفظ الحديث: إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ، فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ، فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُصُ. وفي رواية أخرى في مسلم عن حذيفة بن أسيد كذلك: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، يَقُولُ: «إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَتَصَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ» قَالَ زُهَيْرٌ: حَسِبْتُهُ قَالَ: الَّذِي يَخْلُقُهَا" فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، فَيَجْعَلُهُ اللهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَسَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيٍّ، فَيَجْعَلُهُ اللهُ سَوِيًّا أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مَا رِزْقُهُ مَا أَجَلُهُ مَا خُلُقُهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللهُ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا.
وذكر مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالرَّحِمِ، إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِإِذْنِ اللهِ، لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
فهذه روايات حديث حذيفة بن أسيد المذكور، والذي استشكلت روايته عند مسلم، وهي واضحة في أن اللفظة التي استشكلتها المراد منها أن الملك يخلق ويصور ويكتب بإذن الله تعالى، وأمره له بذلك، لا أنه يوجد من عدم، أو يوجد شيئا بغير إذن الله له. فإذا علمت هذا، فإن نسبة الخلق إلى الملك نسبة مجازية، كما دل على ذلك مجموع روايات الحديث.
قال القرطبي في المفهم: ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازية لا حقيقية، وإنما صدر عنه فعل ما في المضغة كان عنه التصوير والتشكيل بقدرة الله تعالى وخلقه واختراعه. ألا ترى أن الله تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنا نسب جميع الخليقة، فقال: {وَلَقَد خَلَقنَاكُم ثُمَّ صَوَّرنَاكُم} وقال: {وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ} الآية، وقال: {وَصَوَّرَكُم فَأَحسَنَ صُوَرَكُم وَإِلَيهِ المَصِيرُ} وغير ذلك من الآيات. هذا مع ما دلت عليه قاطعات البراهين من أنه لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين. انتهى.
والله أعلم.