الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن العُجْب من أشد الأدواء التي تفتك بقلب العبد، وهو إنما ينشأ من جهل العبد بحاله، وذنوبه، وعيوبه، وجهله كذلك بعظمة ربه سبحانه، وما يستحقه من العبودية، قال ابن القيم في مدارج السالكين: رضاء العبد بطاعته، دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم علمه بما يستحقه الرب جل جلاله، ويليق أن يعامل به.
وحاصل ذلك أن جهله بنفسه، وصفاتها، وآفاتها، وعيوب عمله، وجهله بربه وحقوقه، وما ينبغي أن يعامل به، يتولد منهما رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك من العجب، والكبر، والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة من الزنى، وشرب الخمر، والفرار من الزحف، ونحوها. فالرضى بالطاعة من رعونات النفس، وحماقتها. اهـ من مدارج السالكين.
وعلاج العجب يحصل باستشعار نعمة الله، ومنّته على العبد بالطاعة، وأن يجعل العبد نصب عينيه عيوب نفسها، وآفاتها، وتقصيرها.
قال ابن القيم: فمن أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذل، والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه، وإحسانه، ورحمته، وجوده، وبره، وغناه، وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنّة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
وهذا معنى قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الصحيح من حديث بريدة -رضي الله تعالى عنه-: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، فجمع في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي) مشاهدة المنّة، ومطالعة عيب النفس والعمل:
فمشاهدة المنّة، توجب له المحبة، والحمد، والشكر لولي النعم والإحسان.
ومطالعة عيب النفس والعمل، توجب له الذل، والانكسار، والافتقار، والتوبة في كل وقت .اهـ. من الوابل الصيب.
وأولياء الله حقًّا لا يرون أنفسهم شيئًا تواضعًا منهم، وإخباتًا لله؛ بخلاف حال الحمقى المعجبين بأنفسهم.
قال ابن القيم: ومن خصائص عائشة -رضي الله عنها-:
أن الله سبحانه برأها مما رماها به أهل الإفك.
وأنزل في عذرها وبراءتها وحيًا يتلى في محاريب المسلمين، وصلواتهم إلى يوم القيامة.
وشهد لها بأنها من الطيبات.
ووعدها المغفرة والرزق الكريم.
وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها من الإفك، كان خيرًا لها، ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شرًّا لها، ولا عائبًا لها، ولا خافضًا من شأنها، بل رفعها الله بذلك، وأعلى قدرها، وأعظم شأنها، وصار لها ذكرًا بالطيب، والبراءة بين أهل الأرض والسماء، فيا لها من منقبة ما أجلها.
وتأمل هذا التشريف، والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها، واستصغارها لنفسها، حيث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها.
فهذه صدّيقة الأمة، وأم المؤمنين، وحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون لها، مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كان احتقارها لنفسها، وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن صام يومًا أو يومين، أو شهرًا أو شهرين، وقام ليلة أو ليلتين، فظهر عليه شيء من الأحوال، فلاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، والمكاشفات، والمخاطبات، والمنازلات، وإجابة الدعوات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم، ويغتنم صالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم، وتعظيمهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، فيتمسح بأثوابهم، ويقبّل ثرى أعتابهم، وأنهم من الله بالمكانة التي ينتقم لهم لأجلها ممن تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ ممن أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وأن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفّره شيء إلا رضاهم، ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف.
وهذه الحماقات والرعونات نتائج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم؛ فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وذنوبه، مغتر بإمهال الله تعالى له عن أخذه بما هو فيه من الكبر، والإزراء على من لعله عند الله -عز وجل- خير منه -نسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة-.
وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيمًا، وهو عند الله حقير. اهـ من جلاء الأفهام.
ثم إن من الوهم الكبير الظن بأن أولياء الله لا يبتلون في الدنيا، بل العكس هو الصحيح؛ فأولياء الله هم أشد الناس بلاء، كما جاء في الحديث: عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دِينه؛ فإن كان دينه صلبًا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دِينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة. أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم.
قال ابن القيم: ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة.
ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء، إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له.
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره، وعزه، وعافيته؛ ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم، فالأقرب .اهـ. من إغاثة اللهفان.
وليس للعجب كفارة خاصة سوى التوبة منه، والإقلاع عنه.
والله أعلم.