السؤال
ما حكم الرياء في علوم الوسائل (الآلات)، كاللغة، والنحو، والبلاغة، والشعر، والتاريخ؟ وهل يأثم من يتعلمها رياء؛ لكي يقال شاعر، أو بليغ، أو مؤرخ؟
ما حكم الرياء في علوم الوسائل (الآلات)، كاللغة، والنحو، والبلاغة، والشعر، والتاريخ؟ وهل يأثم من يتعلمها رياء؛ لكي يقال شاعر، أو بليغ، أو مؤرخ؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن العلوم غير الشرعية لا يجب في طلبها الإخلاص لله سبحانه، فهي كسائر الأمور الدنيوية، لا إثم في عدم الإخلاص فيها لله، قال الدكتور عبد الكريم الخضير: علوم الدنيا -من طب، وهندسة، وزراعة، وصناعة، وغيرها من العلوم-، من طلبها للدنيا فقط، لا يأثم، بخلاف العلوم الشرعية التي يبتغى بها وجه الله -عز وجل-، كالعلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة التي لا يجوز التشريك في طلبها، فضلًا عن أن تطلب بغير نية، أو رياء، أو سمعة، وقد جاء التحذير من ذلك أشد التحذير، وأبلغ التنفير، ففي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعّر بهم النار، منهم: من تعلم العلم وعلمه، فقد يمضي عمره كله مائة سنة، نصفها في التعلم، والنصف الثاني في التعليم، ثم يكون بعد ذلك أحد الثلاثة الذين أول من تسعّر بهم النار، ماذا صنعت يا فلان؟ تعلّمت العلم، وعلّمته الناس، لا، إنما تعلّمت ليقال، وقد قيل، ومثله المجاهد الذي يبذل نفسه ومهجته فيما يبدو للناس، ويظهر للناس أنه يقدّمها لإعلاء كلمة الله -جل وعلا-، والأمر خلاف ذلك، إنما ليقال: شجاع، وثالثهم الذي يتصدق بالأموال الطائلة ليقال: جواد. اهـ. من معالم في طريق طلب العلم.
والعلوم التي سميتها كلها، ليست من العلوم الشرعية -وإن كانت معينة عليها-، قال الغزالي: العلوم تنقسم إلى شرعية، وغير شرعية -وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه، مثل الحساب، ولا التجربة، مثل الطب، ولا السماع، مثل اللغة-.
فالعلوم التي ليست بشرعية، تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح:
فالمحمود: ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا، كالطب، والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة، وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية، فهو: علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا، والمواريث، وغيرهما.
وأما ما يعدّ فضيلة، لا فريضة، فالتعّمق في دقائق الحساب، وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.
وأما المذموم: فعلم السحر، والطلسمات، وعلم الشعبذة، والتلبيسات.
وأما المباح منه: فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار، وما يجري مجراه.
أما العلوم الشرعية، فهي: محمودة كلها. اهـ. باختصار من إحياء علوم الدين.
وقال أيضًا: وليست اللغة، والنحو من العلوم الشرعية في أنفسهما، ولكن يلزم الخوض فيهما بسبب الشرع؛ إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب، وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة، فيصير تعلم تلك اللغة آلة، ومن الآلات: علم كتابة الخط. اهـ.
فينتج من هاتين المقدمتين؛ أن الرياء، وطلب الجاه، والمكانة بعلوم اللغة، والتاريخ، ليس محرمًا بإطلاق، كالرياء في العلوم الشرعية، بل حكمه حكم الرياء بغير العبادات، وفيه تفصيل، بيّنه الغزالي في الإحياء بقوله: فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه، أو مباح، أو فيه تفصيل؟
فأقول: فيه تفصيل، فإن الرياء هو طلب الجاه، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغير العبادات:
فإن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال، فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات، وأسباب محظورات، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود، فكسب قليل من الجاه، وهو ما يسلم به عن الآفات أيضًا محمود، وهو الذي طلبه يوسف -عليه السلام- حيث قال: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
وكما أن المال فيه سم ناقع، ودرياق نافع، فكذلك الجاه، وكما أن كثير المال يلهي، ويطغي، وينسي ذكر الله، والدار الآخرة، فكذلك كثير الجاه، بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، وكما أنّا لا نقول: تملك المال الكثير حرام، فلا نقول أيضًا: تملّك القلوب الكثيرة حرام، إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز.
نعم، انصراف الهم إلى سعة الجاه، مبدأ الشرور، كانصراف الهمّ إلى كثرة المال، ولا يقدر محبّ الجاه والمال على ترك معاصي القلب، واللسان، وغيرها.
وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله إن زال، فلا ضرر فيه.
فإذن المراءاة بما ليس من العبادات، قد تكون مباحة، وقد تكون طاعة، وقد تكون مذمومة؛ وذلك بحسب الغرض المطلوب بها. اهـ.
وأما سؤالك الثاني: فراسلنا به في رسالة أخرى؛ لأننا بيّنّا في خانة إدخال الأسئلة، أنه لا يسمح إلا بإرسال سؤال واحد فقط في المساحة المعدة لذلك، وأن الرسالة التي تحوي أكثر من سؤال، سيتم الإجابة عن السؤال الأول منها، وإهمال بقية الأسئلة.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني