السؤال
شكرًا لكم، وأسأل عن كيفية احتساب الأجر في المباحات، فمثلًا عندما أذاكر مَوَادِّي أشعر برغبة في تحقيق الأجر، ولكني أشعر بقلق وتوتر شديدين، ولا يأتي على بالي هدف واضح للنية الصالحة لهذه المذاكرة.
شكرًا لكم، وأسأل عن كيفية احتساب الأجر في المباحات، فمثلًا عندما أذاكر مَوَادِّي أشعر برغبة في تحقيق الأجر، ولكني أشعر بقلق وتوتر شديدين، ولا يأتي على بالي هدف واضح للنية الصالحة لهذه المذاكرة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يرزقك النية الصالحة.
والأمر يسير إذا استعنت بالله، وطلبت التوفيق منه، فشدة القلق والتوتر لا تنبغي، والشيطان قد يدخل عليك من هذه الباب؛ ليصيبك بالقنوط، والوسوسة.
وننقل ها هنا كلامًا نفيسًا للغزالي في كيفية تحقيق النية في المباحات، قال في كتابه إحياء علوم الدين:
ما من شيء من المباحات، إلا ويحتمل نية، أو نيات يصير بها من محاسن القربات، وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها، ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو، وغفلة.
ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئًا من الخطرات، والخطوات، واللحظات.
فاستعمال الطيب مباح، ولكن لا بدّ فيه من نية.
فإن قلت: فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب، وهو حظّ من حظوظ النفس، وكيف يتطيب لله؟
فاعلم أن من يتطيب مثلًا يوم الجمعة، وفي سائر الأوقات، يُتصور أن يقصد التنعّم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال؛ ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق، ليقوم له الجاه في قلوبهم، ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات، إذا كان مستحلًّا للنظر إليهنّ، ولأمور أخرى لا تحصى، وكل هذا يجعل التطيب معصية؛ فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة، إلا القصد الأول، وهو التلذّذ والتنعّم، فإن ذلك ليس بمعصية، إلا أنه يُسأل عنه، ومن نوقش الحساب عذّب، ومن أتى شيئًا من مباح الدنيا، لم يعذب عليه في الآخرة، ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره، وناهيك خسرانًا بأن يستعجل ما يفنى، ويخسر زيادة نعيم لا يفنى.
وأما النية الحسنة: فإنه ينوي به اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وينوي بذلك أيضًا تعظيم المسجد، واحترام بيت الله، فلا يرى أن يدخله زائرًا لله إلا طيب الرائحة، وأن يقصد به ترويح جيرانه؛ ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه، وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدّي إلى إيذاء مخالطيه، وأن يقصد حسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله بسببه، وأن يقصد به معالجة دماغه؛ لتزيد به فطنته، وذكاؤه، ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر، فقد قال الشافعي -رحمه الله-: من طاب ريحه، زاد عقله. فهذا وأمثاله من النيات، لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة وطلب الخير، غالبة على قلبه، وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا، لم تحضره هذه النيات، وإن ذكرت له، لم ينبعث لها قلبه، فلا يكون معه منها إلا حديث النفس، وليس ذلك من النية في شيء.
والمباحات كثيرة، ولا يمكن إحصاء النيّات فيها، فقس بهذا الواحد ما عداه؛ ولهذا قال بعض العارفين من السلف: إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في أكلي، وشربي، ونومي، ودخولي إلى الخلاء.
وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى؛ لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن، وفراغ القلب من مهمات البدن، فهو معين على الدِّين، فمن قصده من الأكل التقوّي على العبادة، ومن الوِقاع تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصّل به إلى نسل صالح يعبد الله تعالى بعده، فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كان مطيعًا بأكله، ونكاحه.
وأغلب حظوظ النفس الأكل، والوِقاع، وقصد الخير بهما غير ممتنع؛ لمن غلب على قلبه همّ الآخرة. اهـ.
وراجع المزيد في الفتاوى: 157449، 268249، 24782، 332143.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني