السؤال
في فتاوى كثيرة بالنسبة لي سألت أكثر من شيخ. ولي عدة أسئلة على ذلك:
أولا: إذا سألت سؤالا لشيخين، وكان الشيخ الأول أقل ثقة، وذكر دليلا على الفتوى. والشيخ الثاني أكثر ثقة، ولم يذكر لي دليلا. فبأي فتوى أعمل. علما بأنني عامي.
ثانيا: بالنسبة للعامي علمت من فتاواكم بأنه لا بد أن يتبع الأكثر ثقة. فهل معنى ذلك أن أتبع العالم الثقة حتى لو لم يذكر الدليل، ولا يشترط ذكر الدليل، وحتى مع وجود عالم آخر أقل ثقة، وذكر الدليل.
ثالثا: هل لزام علي أن أذهب إلى كل عالم ثقة عملت بفتواه، وأطالبه بالدليل؛ لأنه كان هناك علماء أقل ثقة ذكروا الدليل في نفس الفتاوى.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذا كنت عاميا، فوظيفتك أن تقلد العالم الثقة، وإذا اختلف العلماء، فإنك تقلد أوثقهم في نفسك، والأصل في العامي عدم قدرته على فهم مدارك الأدلة، ومآخذ الأحكام، ومن ثَمَّ، فإن وظيفته هي التقليد بغض النظر عما إذا ذكر المقلَّد دليلا، أو لم يذكر، ولا يلزم المفتي ذكر الدليل للمستفتي، وإن كان ذلك حسنا.
قال أبو عمرو ابن الصلاح: "العاشرة": لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه به، ولا يقول له: لم وكيف؟ فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك، سأل عنها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة عن الحجة. وذكر السمعاني: أنه لا يمنع من أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه، وأنه يلزمه أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به، ولا يلزمه ذلك إن لم يكن مقطوعًا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه العامي. انتهى وصوب النووي القول.
وقال الزركشي في البحر: إذَا عَلِمْت هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْسِيمٍ يَجْمَعُ أَفْرَادَ الْمَسْأَلَةِ، وَيَضْبِطُ شُعَبَهَا، فَنَقُولُ: الْعُلُومُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَشْتَرِك فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَيُعْلَمُ مِن الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَالْمُتَوَاتِرِ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ لِأَحَدٍ، كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَتَعْيِينِ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَالزِّنَى، وَاللِّوَاطِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَشُقُّ عَلَى الْعَامِّيِّ مَعْرِفَتُهُ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ أَعْمَالِهِ، وَكَذَا فِي أَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي. وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَاصَّةِ، وَالنَّاسُ فِيهِ ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ: مُجْتَهِدٌ، وَعَامِّيٌّ، وَعَالِمٌ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ. أَحَدُهَا: الْعَامِّيُّ الصِّرْفُ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِفْتَاءُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ جَمِيعِهَا، وَلَا يَنْفَعُهُ مَا عِنْدَهُ مِن الْعُلُومِ لَا تُؤَدِّي إلَى اجْتِهَادٍ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا، وَأَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِي الْقِبْلَةِ. انتهى
وإذا علمت هذا، فإنك تقلد الأوثق في نفسك بغض النظر عن الحجة المذكورة؛ إذ قد تكون تلك الحجة غير ثابتة عند الأوثق، أو قد يكون لها معارض أقوى منها عنده، وإن أحببت أن تسكن نفسك، فسله عن الحجة التي استند إليها، وانظر للواجب على العامي الفتويين : 120640، 169801.
والله أعلم.