السؤال
سؤالي عن اختلاف وقع بيننا في منطقتنا عن حكم تكفير المعين، ومسألة العذر بالجهل. فمنّا من قال مستندا لفتاوى علماء ربانيين أن من وقع في الشرك نزلت عليه الصفة، ويسمى مشركا، ولا عذر بالجهل في مسألة التوحيد، ولا يمكن أن يجتمع النقيضان في شخص واحد (الشرك والإسلام)، وأن مسألة إقامة الحجة إنما تكون في أمور قد تخفى. فمن وقع في الشرك عومل معاملة المشركين في الدنيا، وفي الآخرة أمره إلى الله.
وقال الطرف الآخر: إنه لا يكفّر إلا أهل العلم، وأن من وقع في الشرك يسمى مسلما، حتى تقام عليه الحجة، والذي يقيم الحجة هم أهل العلم. فمن وقع في الشرك عومل معاملة المسلمين، حتى تقام عليه الحجة ويعاند.
وعلى هذا حدث الافتراق بيننا. مع أن الشيخ ابن باز -رحمه الله- أخبر أن المسألة ليست خلافية، وهو يرى بعدم العذر في هذه المسائل، وفي المقابل نرى من العلماء من يقول بأن التكفير ليس إلا لأهل العلم، ولا يحكم على معين بكفر، إلا عند توفر الشروط، وانتفاء الموانع.
فهل هناك خلاف بين أهل العلم في هذا بحيث إنهم لو شاهدوا من يعبد غير الله لسماه بعضهم مسلما، والبعض الآخر مشركا، ويبقى بينهم التواد، والأخوة، والحب في الله، ولا تأثير لذلك؟ أم أن في المسألة ولاء وبراء؟
أفيدونا ببحث مقنع في هذا الباب، فنحن في حيرة. بارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق لنا أن أصدرنا عدة فتاوى حول مسألة العذر بالجهل من عدمه في الشرك الأكبر، وما فيها يغني عن الإعادة هنا. فانظر الفتوى: 393349. وانظر الفتوى المحال عليها في آخرها، ففيها كلام مهم للشيخ السعدي والشيخ محمد بن عبد الوهاب ــ رحمهما الله تعالى ــ في العذر بالجهل، وكذا فتوى اللجنة الدائمة في أنه ينبغي للموحدين أن يعذر بعضهم بعضا في مثل هذه المسألة " العذر بالجهل " فيمن وقع في الشرك الأكبر من المسلمين.
ومن المهم أن ينتبه الدعاة إلى الله تعالى، والمشايخ، وشباب الصحوة إلى البيئة الدعوية التي يعيشون فيها، والظروف المحيطة بهم، وتأثيرها على دعوتهم، فربما كانت المجاهرة بتكفيرهم للمعين سببا في نفرة الناس من دعوتهم، ولينظروا إلى حكمة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لما قال المنافق عبد الله بن أبي بن سلول: وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِب عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. والحديث في الصحيحين.
فكذا لو ترتب على المجاهرة بتكفير شخص معين نفرة الناس، وابتعادهم عن المشايخ والدعاة بزعم أنهم تكفيريون فَلْيَدَعُوا هذا الباب، حتى لا يتحدث الناس أنهم يكفرون المسلمين، فإن مفسدة وصمهم بهذا الأمر كبيرة.
وأما مسألة الرجوع لأهل العلم في تكفير المعين، فلا شك أن مسائل تكفير المعين شائكة، ولا بد فيها من الرجوع إلى أهل العلم، ولكن من الأمور المكفرة ما هو واضح جلي لا يخفى حتى على العامة، ولا يُتوقف في تكفير فاعله على أهل العلم. فمن رأيناه -مثلا- يبول على المصحف، وقد قيل له: إنه مصحف. فقال: نعم أعلم، ولا أبالي. فإن تكفير هذا لا يتوقف فيه على الرجوع إلى أهل العلم، وكذا من سب الله تعالى، أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- متعمدا ولم يسبق لسانه إلى السب خطأً. ونحو هذه الحالات، فإن صاحبها يُكفر عينا، ولا يتوقف في تكفيره على استفتاء أهل العلم، ولا يلام من كَفَّرَهُ ولا يأثم بل يثاب على غيرته لدينه.
وقد قال ابن القيم في زاد المعاد عند ذكره للفوائد المستفادة من قصة فتح مكة وقول عمر عن حاطب -رضي الله عنهما- إنه منافق. قال ابن القيم: وَفِيهَا: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَسَبَ الْمُسْلِمَ إِلَى النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ مُتَأَوِّلًا وَغَضَبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ لَا لِهَوَاهُ وَحَظِّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ، بَلْ لَا يَأْثَمُ بِهِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، فَإِنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ وَيُبَدِّعُونَ لِمُخَالَفَةِ أَهْوَائِهِمْ وَنِحَلِهِمْ، وَهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ كَفَّرُوهُ وَبَدَّعُوهُ. اهـ
والواجب على المسلمين أن تجتمع قلوبهم، ويتوادوا، ويبتعدوا عن الفرقة والخلاف، وأن لا تكون مثل هذه المسألة سببا في تفرقهم.
والله أعلم.