السؤال
هل فرض الله علينا أن نفكّر في شيء ما؟ بمعنى في ماذا يجب أن أفكر وفي ماذا لا أفكر.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنحن نجيب عن سؤالك الأول، كما هي سياسة الموقع، فنقول: إن التفكّر عبادة من أجلّ العبادات، وطاعة من أعظم الطاعات، قال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {آل عمران:191}، وقال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ {النساء:82}، {محمد:24}، وقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا {يوسف:109}، {غافر:82}، {محمد:10}، إلى غير ذلك من الآيات، وهي كثيرة جدًّا.
وعن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة -رضي الله عنها-، فقال ابن عمير: حدّثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة، ذريني أتعبّد لربي، قالت: قلت: والله، إني لأحبّ قربك، وأحب ما يسرّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، فلم يزل يبكي؛ حتى بلّ حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي؛ حتى بلّ الأرض، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلت عليّ الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتفكّر ما فيها: (إن في خلق السموات والأرض ...) رواه ابن حبّان. وقال في السلسلة الصحيحة: وهذا إسناد جيد.
ولذا نص كثير من العلماء على أن التفكّر المفضي إلى حصول الإيمان بالله وقدرته، وأنه وحده الخالق المدبر، والنافي للشك في ذلك، واجب؛ فإن الله أنكر على المشركين عدم تفكّرهم وغفلتهم؛ حتى صاروا إلى ما صاروا إليه من النكران والجحود، قال الرازي: ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: أَفَلا تَذَكَّرُونَ. دَالًّا بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّفَكُّرِ فِي تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّفَكُّرَ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى جَلَالَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، أعلى المراتب، وأكمل الدرجات. انتهى.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي -رحمه الله-: ثم نبّه الله تعالى في ختام الآية إلى وجوب التّفكّر في تلك الآيات السّماوية والأرضية، فقال: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. أي: إن في مخلوقات الله، وعجائب خلقه، وآلائه، وحكمه، لدلائل وبراهين لمن يتفكّر فيها، ويعتبر بعظمتها؛ فيستدلّ بها على وجود الله تعالى، وقدرته، وكمال علمه، وإرادته، مما لا يوجد له مثيل في الكون؛ وذلك يستوجب تخصيصه بالعبادة، والخضوع لسلطانه، والتزام أوامره. انتهى.
فهذا التفكر المفضي إلى حصول الواجبات -كالإيمان بالله، ومعرفة قدرته وعظمته، ونحو ذلك- واجب، وما زاد على هذا، فهو مستحب، وهو من أجلّ العبادات، كما ذكرنا.
فالتفكر المشروع -وجوبًا أو استحبابًا- هو التفكر في آيات الله الشرعية، وهي القرآن العزيز، وآياته الكونية، وهي مخلوقاته الدالة على بديع صنعه، وعظيم حكمته وقدرته تبارك وتعالى.
وكذا يشرع التفكر في أسماء الرب وصفاته، والتفكر في أمور الآخرة، والجنة والنار، ونحو ذلك، فكل ما يبعث على زيادة الإيمان، ويكون سببًا في حياة القلب؛ فالتفكر فيه مشروع.
وأما التفكر الممنوع، فهو التفكر في ذات الله عز وجل، وكيفية صفاته، وكذا التفكر في الشهوات والمحرمات؛ فإن حراسة الخواطر من هذا الجنس من الأفكار، مأمور بها؛ لأن الفكرة هي أول الخطيئة، فمحاربة الفكرة أيسر من محاربتها بعد أن تستفحل فتصير همًّا، أو عزمًا جازمًا. وانظر الفتوى: 150491، والفتوى: 262633.
وزيادة للفائدة، ننقل هنا ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- من الآثار الجليلة فيما يشرع التفكر فيه، وفضيلة التفكر عند الكلام على قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {آل عمران:191}.
قال -رحمه الله-: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أَيْ: يَفْهَمُونَ مَا فِيهِمَا مِنَ الْحِكَمِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَرَحْمَتِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنِّي لَأَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِي، فَمَا يَقَعُ بَصَرِي عَلَى شَيْءٍ إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فِيهِ عِبْرَةٌ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كتاب: التوكل وَالِاعْتِبَارِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْفِكْرَةُ مِرْآةٌ، تُرِيكَ حَسَنَاتِكَ وَسَيِّئَاتِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الْفِكْرَةُ نُورٌ يَدْخُلُ قلبك، وربما تمثل بهذا البيت: [المتقارب].
إِذَا الْمَرْءُ كَانَتْ لَهُ فِكْرَةٌ ... فِفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ عِبْرَةٌ
وَعَنْ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: طُوبَى لِمَنْ كَانَ قِيلُهُ تَذَكُّرًا، وَصَمْتُهُ تَفَكُّرًا، وَنَظَرُهُ عِبَرًا.
وَقَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ: إِنَّ طُولَ الْوَحْدَةِ، أَلْهَمُ لِلْفِكْرَةِ، وَطُولَ الْفِكْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى طَرْقِ بَابِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ وَهَبُ بن منبه: ما طالت فكرة امرئ، إلا فهم، ولا فهم امرؤ قط، إلا علم، ولا عَلِمَ امْرُؤٌ قَطُّ، إِلَّا عَمِلَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: الْكَلَامُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنٌ، وَالْفِكْرَةُ فِي نِعَمِ اللَّهِ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ مُغِيثٌ الْأَسْوَدُ: زُورُوا الْقُبُورَ كُلَّ يَوْمِ تُفَكِّرُكُمْ، وَشَاهِدُوا الْمَوْقِفَ بِقُلُوبِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى الْمُنْصَرَفِ بِالْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَأَشْعِرُوا قلوبكم وأبدانكم ذكر النَّارِ وَمَقَامِعَهَا وَأَطْبَاقَهَا. وَكَانَ يَبْكِي عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى يُرْفَعَ صَرِيعًا مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَرَّ رَجُلٌ بِرَاهِبٍ عِنْدَ مَقْبَرَةٍ وَمَزْبَلَةٍ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَاهِبُ، إِنَّ عِنْدَكَ كَنْزَيْنِ مِنْ كُنُوزِ الدُّنْيَا لَكَ فِيهِمَا مُعْتَبَرٌ: كَنْزُ الرِّجَالِ، وَكَنْزُ الْأَمْوَالِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَعَاهَدَ قَلْبَهُ، يَأْتِي الْخَرِبَةَ فَيَقِفُ عَلَى بَابِهَا، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ حَزِينٍ، فَيَقُولُ: أَيْنَ أَهْلُكِ؟ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: 88].
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَكْعَتَانِ مُقْتَصِدَتَانِ فِي تَفَكُّرٍ، خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ وَالْقَلْبُ سَاهٍ.
وقال الحسن البصري: يَا ابْنَ آدَمَ، كُلْ فِي ثُلُثِ بَطْنِكَ، وَاشْرَبْ فِي ثُلْثِهِ، وَدَعْ ثُلُثَهُ الْآخَرَ، تَتَنَفَّسُ لِلْفِكْرَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا بِغَيْرِ الْعِبْرَةِ، انْطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قَلْبِهِ بِقَدْرِ تِلْكَ الْغَفْلَةِ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: لَوْ تَفَكَّرَ النَّاسُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَمَا عَصَوْهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَلَا اثْنَيْنِ، وَلَا ثَلَاثَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: إِنَّ ضِيَاءَ الْإِيمَانِ أَوْ نُورَ الْإِيمَانِ التَّفَكُّرُ.
وَعَنْ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ الضعيف، اتق الله حيث ما كُنْتَ، وَكُنْ فِي الدُّنْيَا ضَيْفًا، وَاتَّخِذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا، وَعَلِّمْ عَيْنَيْكَ الْبُكَاءَ، وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ، وَقَلْبَكَ الْفِكْرَ، وَلَا تَهْتَمَّ بِرِزْقِ غَدٍ.
وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ بَكَى يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: فَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا وَلِذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، فَاعْتَبَرْتُ مِنْهَا بِهَا، مَا تَكَادُ شَهَوَاتُهَا تَنْقَضِي حَتَّى تُكَدِّرَهَا مَرَارَتُهَا، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِبْرَةٌ لِمَنِ اعْتَبَرَ إِنَّ فِيهَا مَوَاعِظَ لِمَنِ ادَّكَرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَنْشَدَنِي الحسين بن عبد الرحمن: [مجزوء الخفيف].
نُزْهَةُ الْمُؤْمِنِ الْفِكَرْ ... لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ الْعِبَرْ
نَحْمَدُ اللَّهَ وَحْدَهُ ... نَحْنُ كُلٌّ عَلَى خَطَرْ
رُبَّ لَاهٍ وَعُمْرُهُ ... قَدْ تَقَضَّى وَمَا شَعَرْ
رُبَّ عيش قد كان فو ... ق المنى مونق الزّهر
في خرير من العيو ... ن، وظل من الشجر
وسرور من النبا ... ت، وَطِيبٍ مِنَ الثَمَرْ
غَيَّرَتْهُ وَأَهْلَهُ ... سُرْعَةُ الدَّهْرِ بِالْغِيَرْ
نَحْمَدُ اللَّهَ وَحْدَهُ ... إِنَّ فِي ذَا لَمُعْتَبَرْ
إِنَّ فِي ذَا لَعِبْرَةً ... لِلَبِيبٍ إِنِ اعْتَبَرْ
وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَا يَعْتَبِرُ بِمَخْلُوقَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَشَرْعِهِ، وَقَدْرِهِ، وَآيَاتِهِ، فَقَالَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يُوسُفَ:105-106]، وَمَدَحَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَائِلِينَ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطلًا. انتهى.
وإنما ذكرناه بطوله؛ لفائدته الجليلة.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني