السؤال
لدي والد أسرف على نفسه كثيرا، وفعل من الكبائر الكم الكبير، لن أقول عشرة، أو حتى عشرين، بل هو فعل أكثر من ذلك، وهو كثير الفسوق، أتعب من حوله ببذاءة لسانه، وقسوة قلبه، وتحجر عقله، وتسلطه، وتجبره؛ حتى أنه مرة طردني من البيت؛ لأني ذهبت للصلاة في المسجد، وهو كان يريدني أن أعمل له عملا دنيويا بخسا، هو تارك للصلاة بالجملة، ويغضب عليَّ، ويمقتني بشدة لأنني أخالف هواه.
الجميع من حوله يتمنون أن يستريحوا منه؛ لأنه أنتن نفسه داخليا وخارجيا، لديه رائحة مزعجة -اللهم لا شماتة-، وهو تارك للعمل منذ سنوات، لا يدفع فلسا من عرق جبينه، بل يطلب مني ترك الدراسة؛ كي أصرف على المنزل، ويجعلنا -نحن أبناءه- نوقع عنه في العقود والفواتير، ولم يدفع منها فلسا إلى الآن.
أحد إخوتي قال لي إنه شاك أنه يتعامل مع الجن؛ لأنه يقوم بأفعال مريبة، ويتوعد أمي أنه سيتخلص منها قريبا، وفي الحقيقة، وبلا مبالغة: البيت فيه تقريبا كل أعراض أنه مسكون.
والله إنه أتعبنا، وفيه من الصفات الفرعونية ما لا يعلمه إلا الله. فما موقفنا اتجاهه؟ وهل عدم استغفاري له من العقوق؟ علما أنه يقوم بأعمال تخرج من الملة؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالموقف الشرعي من مثل هذا الوالد فيما نرى يتلخص فيما يلي:
أولا: وجوب بره، ولا يمنع من بره ما هو عليه من الفسق أو الكفر على افتراض أنه قد ارتكب ما يكفر به، فقد بين الله تعالى أن بر الوالدين الكافرين لازم، ولو كانا داعيين إلى شركهما، ونهى عن طاعتهما في المعصية، ففي سورة لقمان قال الله تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا. {لقمان:15}، وفي سورة العنكبوت: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا. {سورة العنكبوت:8}.
ثانيا: الحرص على دعوته إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا كان المسلم مأمورا شرعا بدعوة عموم الناس إلى الله، فإن دعوته لوالده أولى وآكد لما له من فضل على ولده، ودعوته من البر به، ويصيب الولد بذلك أجر الدعوة وأجر البر، ولك أسوة حسنة في دعوة الخليل إبراهيم -عليه السلام- فقد اجتهد في دعاء أبيه، وكرر الدعوة لأبيه، يا أبتِ ... يا أبتِ ... يا أبتِ.
ثالثا: الاجتهاد في دعاء الله له بالهداية، وتخير الأوقات التي هي مظنة الإجابة؛ كالثلث الأخير من الليل، وما بين الاذان والإقامة، وفي السجود، وكم من فاسق اهتدى بدعوةٍ مستجابة من قلب صادق مشفق، ولما اشتكى أبو هريرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إعراض أمه عن الهداية دعا لها فقال: اللهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فهداها الله تعالى، والقصة في صحيح مسلم.
ولما شُكِيَ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قبيلة دوس عَصت وأَبت، دعا لهم فقال: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ. والقصة في الصحيحين، فالدعاء باب عظيم من أبواب هداية المعرضين، وإنابة الفاسقين، وعودة الشاردين.
رابعا: يشرع الاستغفار للوالد، ولو كان فاسقا عاصيا، ولا يمنع فسقه وفجوره من الاستغفار له، بل لو كان كافرا لشرع الاستغفار له ما دام حيا، فإن مات على الكفر فلا، لقول الله تعالى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. {التوبة:113}.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: الِاسْتِغْفَارَ لِلْأَحْيَاءِ جائز؛ لأنه مرجو إيمانهم، ويمكن تَأَلُّفَهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِي الدِّينِ. وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ لِأَبَوَيْهِ الْكَافِرَيْنِ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمَا مَا دَامَا حَيَّيْنِ. فَأَمَّا مَنْ مَاتَ فَقَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ الرَّجَاءُ، فَلَا يُدْعَى لَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمْ فَنَزَلَتْ فَأَمْسَكُوا عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَمْ يَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْأَحْيَاءِ حَتَّى يَمُوتُوا. اهــ. فالاستغفار للوالد من البر، وأما هل ترك الاستغفار له يعد من العقوق؟ لم نظفر بكلام لأهل العلم في النص على هذا وراجع للفائدة الفتوى: 285061.
خامسا: إنكار المنكر متى صدر منه، وعلمتم به إنما يكون على حسب الاستطاعة برفق وأدب، فإن الأصل إنكار المنكر، ولا يسقط الإنكار بكون فاعله والدا أو قريبا، وانظر المزيد في الفتوى: 139535، والفتوى: 134356، والفتوى: 226354. وكلها في الإنكار على الوالدين وكيفيته.
سادسا: إذا كان الوالد قادرا على العمل، ولا يعمل فهو مخطئ، فقد جاء في الحديث: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت. رواه أبو داود، وقوله صلى الله عليه وسلم: كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ. رواه مسلم، وما دام أنه فقير، فالأصل أن أولاده الأغنياء ينفقون عليه، فإن هذا من البر، ولا يمنع منه كسله عن العمل، والأصل وجوب النفقة على الوالد الفقير، ولكن الفقهاء اشترطوا في النفقة على القريب أن يكون فقيرا عاجزا عن التكسب، كما قال صاحب المنتهى: وَتَجِبُ أَوْ إكْمَالُهَا لِأَبَوَيْهِ وَإِنْ عَلَوَا، وَوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ .... مَعَ فَقْرِ مَنْ تَجِبُ لَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَكَسُّبٍ ... اهــ.
ولكن إذا كان تاركا للعمل لأنه لم يجد إلا عملا يزري به، فإن نفقته واجبة على ولده الغني. قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الزاد: قوله: «وعجزه عن تكسب» هذا داخل في الفقر، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يجب الإنفاق على قادر على التكسب حتى ولو كان التكسب بالنسبة لمثله مزريا، فلو فرض أن إنسانا غنيا وعنده أم فقيرة تستطيع أن تخدم عند الناس وتتكسب، فجاءت إلى ابنها، وقالت: أعطني نفقة، فقال لها: لا، أنت تستطيعين التكسب، بأن تشتغلي خادمة، فهل له ذلك؟ ظاهر كلام المؤلف أنه لا يجب عليه الإنفاق عليها؛ لأنه اشترط في حاجة المنفَق عليه عجزه عن التكسب، لكن في هذا نظرا؛ لأن جميع الناس يقولون: إن مثل هذا الفعل ليس برا بالوالدة، فليس من البر بالوالدة أن تدعها تكنس عند الناس، وتخدم وتغسل ثيابهم، وتحلب مواشيهم، وأنت راكن في النعمة، هذا لا يقبله العقل السليم، فضلاً عن الصراط المستقيم. اهــ.
وانظر للفائدة الفتوى: 129095. عن إنفاق الولد على والده بين الوجوب والاستحباب.
والله أعلم.