الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن عيسى -عليه السلام- حين ينزل في آخر الزمان لا يوحى إليه بشريعة جديدة، وإنما يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يتنافى مع كون عيسى -عليه السلام- حين ينزل يكون نبيًّا، لم يُرفع عنه وصف النبوة، وأنه بعد نزوله يوحى إليه بما شاء الله -من المغيبات، أو غيرها- وحيًا حقيقيًّا بواسطة جبريل -كما هو شأن الأنبياء-، إلا أنه لا يوحى إليه بشرع جديد ناسخ لشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال السيوطي في رسالته: (الإعلام بحكم عيسى عليه السلام) ضمن الحاوي للفتاوي:
فقول السائل: بماذا يحكم في هذه الأمة بشرع نبينا أو بشرعه؟
جوابه: أنه يحكم بشرع نبينا، لا بشرعه، نصّ على ذلك العلماء، ووردت به الأحاديث، وانعقد عليه الإجماع.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك: ما أخرجه أحمد، والبزار، والطبراني من حديث سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل عيسى ابن مريم مصدقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملّته، فيقتل الدجال، ثم إنما هو قيام الساعة». وأخرج الطبراني في الكبير، والبيهقي في البعث بسند جيد، عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يلبث الدجال فيكم ما شاء الله، ثم ينزل عيسى ابن مريم مصدقًا بمحمد، وعلى ملّته، إمامًا مهديًّا، وحكمًا عدلًا، فيقتل الدجال» ...
هل ثبت أن عيسى -عليه السلام- بعد نزوله يأتيه وحي؟
والجواب: نعم، روى مسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، من حديث النواس بن سمعان قال: «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال - إلى أن قال -: فبينما هم على ذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، واضعًا يده على أجنحة ملكين، فيتبعه فيدركه، فيقتله عند باب لد الشرقي، فبينما هم كذلك، أوحى الله إلى عيسى ابن مريم أني قد أخرجت عبادًا من عبادي لا يدان لك بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطور، فيبعث الله يأجوج ...الحديث. فهذا صريح في أنه يوحى إليه بعد النزول.
والظاهر أن الجائي إليه بالوحي جبريل -عليه السلام-، بل هو الذي يقطع به، ولا يتردد فيه؛ لأن ذلك وظيفته، وهو السفير بين الله وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة. والدليل على ذلك ما أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" عن عائشة قالت: قال ورقة لخديجة: جبريل أمين الله بينه وبين رسله ...
قد زعم زاعم أن عيسى ابن مريم إذا نزل لا يوحى إليه وحيًا حقيقيًّا، بل وحي إلهام، وهذا القول ساقط مهمل؛ لأمرين:
أحدهما: منابذته للحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم من صحيح مسلم، وغيره، وقد رواه الحاكم في المستدرك، ولفظه: «فبيناه كذلك، إذ أوحى الله إليه: يا عيسى، إني قد أخرجت عبادًا لي، لا يد لأحد بقتالهم، حوّل عبادي إلى الطور». وقال: صحيح على شرط الشيخين، وذلك صريح في أنه وحي حقيقي، لا وحي إلهام.
والثاني: أن ما توهمه هذا الزاعم من تعذّر الوحي الحقيقي فاسد؛ لأن عيسى نبي، فأي مانع من نزول الوحي إليه!؟
فإن تخيل في نفسه أن عيسى قد ذهب وصف النبوة عنه، وانسلخ منه، فهذا قول يقارب الكفر؛ لأن النبي لا يذهب عنه وصف النبوة أبدًا، ولا بعد موته.
وإن تخيّل اختصاص الوحي للنبي بزمن دون زمن، فهو قول لا دليل عليه، ويبطله ثبوت الدليل على خلافه.
وقد ألمّ السبكي بشيء مما ذكرناه، فقال في تصنيف له: ما من نبي إلا أخذ الله عليه الميثاق أنه إن بعث محمد في زمانه ليؤمن به ولينصرنه، ويوصي أمته بذلك، وفي ذلك من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى ...
إلى أن قال: فالنبي صلى الله عليه وسلم هو نبي الأنبياء، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليهم، ورسالته إليهم معنى حاصل له، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فلو وجد في عصرهم، لزمهم اتباعه بلا شك؛ ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته، وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أن يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم، هو واحد من هذه الأمة لما قلناه من اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق به، كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله، لم ينقص منه شيء ... هذا كلام السبكي بحروفه.
فعرف بذلك أنه لا تنافي بين كونه ينزل متبعًا للنبي صلى الله عليه وسلم وبين كونه باقيًا على نبوته، ويأتيه جبريل بما شاء الله من الوحي.
قال زاعم: الوحي في حديث مسلم مؤول بوحي الإلهام.
قلت: قال أهل الأصول: التأويل: صرف اللفظ عن ظاهره لدليل، فإن لم يكن لدليل، فلعب لا تأويل، ولا دليل على هذا، فهو لعب بالحديث.
قال زاعم: الدليل عليه حديث: "لا وحي بعدي".
قلنا: هذا الحديث بهذا اللفظ باطل.
قال زاعم: الدليل عليه حديث: "لا نبي بعدي".
قلنا: يا مسكين، لا دلالة في هذا الحديث على ما ذكرت بوجه من الوجوه؛ لأن المراد لا يحدث بعده بعث نبي بشرع ينسخ شرعه، كما فسّره بذلك العلماء.
ثم يقال لهذا الزاعم: هل أنت آخذ بظاهر الحديث من غير حمل على المعنى المذكور!؟
فيلزمك عليه أحد أمرين: إما نفي نزول عيسى، أو نفي النبوة عنه، وكلاهما كفر. اهـ باختصار.
والله أعلم.