السؤال
أعزم على أبي بالشيء فيرفض، فآخذ الشيء، ولا أقول له: خذه ثانيا. لأنه سيرفض، ولا أكرر عليه الطلب، بل آخذه، وأمشي، وأفرح أني أثبت قوتي بطريقة ليست حراما، حيث إن معاملته بهذا الأسلوب تجعله يهدئ من ظلمه.
وأيضا عزمت عليه بشيء، فلم يرض، وكان في يدي، فقبضت يدي عليه، وأخذته، ورحت. ولم أرتح لما فعلت من قبض يدي عليه.
وأبي يشق عليه لبس الشراب بنفسه، وعندما يكون حزينا مني، لا أعرف لماذا هو حزين، فله حالات مزاجية، أو ممكن أن يكون حزينا بسبب أنه أساء لأمي، فرددت عليه، وقلت له: لا يصح هذا، سنحاسب على كل كلمة. ولا يرضى أن يجعلني ألبسه الشراب، وإن عزمت عليه، فلا محالة سيرفض، وإن كررت الطلب، ربما ينظر إليّ، ويرفض بصوت غاضب.
وإني بصراحة لا أريد أن أكون مع أبي بحيث يراني أعزم، وأُصِرُّ؛ لأن هذا يجعله يتجرأ عليَّ، ولا أحب هذا أبدا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فحرصك على إكرام أبيك، واجتهادك في استرضائه؛ ليس ضعفا؛ بل هو قوة في شخصيتك، وذلتك وتواضعك له؛ ليس فيه مهانة لك؛ بل هو عزة ورفعة وشرف لنفسك، وقربة إلى ربك؛ فحقّ الوالدين على الولد عظيم، وقد أوجب الله معاملتهما بالأدب والرفق والتوقير والتواضع لهما، ولا سيما حال ضعفهما وكبرهما، قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا {الإسراء:23}.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وقل لهما قولا كريما ): أي لينا لطيفا مثل: يا أبتاه ويا أمّاه من غير أن يسميهما ويكنيهما. قال عطاء: وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: وقل لهما قولا كريما. ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. انتهى.
وقال: فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظره. انتهى.
فوصيتنا لك أن تبرّ أباك، وتحسن إليه، وتطيعه في المعروف، ولو فرض أنّه أساء إليك، أو ظلمك؛ فلا يسقط حقّه عليك، فقد عقد البخاري في كتابه الأدب المفرد بابًا أسماه: باب بر والديه وإن ظلما -وأورد تحته أثرًا عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ما من مسلم له والدان مسلمان، يُصبح إليهما محتسبًا، إلا فتح له الله بابين -يعني: من الجنة- وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما، لم يرضَ الله عنه، حتى يرضى عنه، قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. انتهى.
ولا مانع من النصح للوالد، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، لكن برفق وأدب من غير إغلاظ، ولا إساءة.
قال ابن مفلح -رحمه الله-: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمَا عَن الْمُنْكَرِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَلَا إسَاءَةٍ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ. انتهى من الآداب الشرعية.
واعلم أنّ بر الوالدين من أعظم أسباب رضوان الله، ودخول الجنة، ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ:رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرب في سخط الوالد.
والله أعلم.