السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم لقد قرأت الفتوى المذكورة أنفا في موقع إسلامي وقد أرحتني كثيرأ عند قرائتها ولكن هناك آيه كريمة تقول "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، ما هو تفسيرها وما علاقتها بمن ابتلي بالوسوسة وهو محافظ على الفرائض ويلوم نفسه على هذه الوسوسة ويخاف من عقاب الله سبحانه و تعالى، الفتوى هي كالتالي:
الحمد للهلقد أخذ الشيطان على نفسه عهداً أمام رب العالمين سبحانه وتعالى على أن ينابذ آدم وذريته العداوة، والحرص على إغوائهم وإضلالهم بشتى السبل والحيل، فقال الله تعالى حاكياً عن الشيطان ( قال فبعزتكَ لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )، وقال تعالى ( قال فبما أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين* قال أخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ) [الأعراف 16 – 18].
فقعد الشيطان لبني آدم من خروجهم للدنيا، فهو أول من يستقبله بعد ولادته فيطعنه في جنبيه حقداً وحسداً فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يطعن في جنبيه بإصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب، رواه البخاري ( 6 / 337 الفتح )، وفي رواية ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم ( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )، رواه البخاري ( 8 / 212 الفتح ) ومسلم ( 15 / 121 النووي ).
ولما كان التوحيد هو أساس الإسلام، وصرحه الشامخ، ورأس مال المسلم، ومن خلاله يمكن للشيطان أن ينفذ سمومه ليفسد على المسلم دينه فقد وجه جلَّ سهامه وجنَّد جنوده لإفساد هذه العقيدة والتشكيك في التوحيد الخالص، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. متفق عليه، وهذا لفظ البخاري ( 6 / 337 )، ومسلم ( 2 / 514 ).
ولقد وقع ذلك صراحة لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءوا إليه يشكون من ذلك الشيء ( كما تشكو منه أنتَ ) فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم ( 2 / 512 )، وأبوداود ( 5 / 336 )، وفي رواية عند مسلم ( تلك محض الإيمان ). قال النووي رحمه الله: فقوله صلى الله عليه وسلم (ذلك صريح الإيمان ) ( ومحض الإيمان ) معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به، فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً، وانتفت عنه الريبة والشكوك، وقيل إن معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من اغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان )انتهى ( شرح النووي 2 / 512 ).
وقال الخطابي : قوله ( ذاك صريح الإيمان ) معناه: أن صريح الإيمان هو الذي يمنعكم من قبول ما يلقيه الشيطان في أنفسكم، والتصديق به، وليس معناه أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولد من فعل الشيطان وتسويله، فكيف يكون إيماناً صريحاً، لأن الإيمان: التيقن، وإنما الإشارة إلى أن ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبهم على ما وقع في نفوسهم: هو محض الإيمان، إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه. انتهى ( معالم السنن بحاشية مختصر سنن أبي داود للمنذري 8 / 12 ).
وشكى إليه الصحابة أنَّ أحدهم يجد في نفسه – يعرِّض بالشيء – لأَن يكون حُـمَمة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة. رواه الإمام أحمد ( 1 / 235 )، وأبو داود ( 5 / 336 )، ومعنى ( حُمَمة ) أي: رماداً، وكل ما احترق من النار، قاله المنذري ( 8 / 12 ).
فليستـبشر المسلم بهذه البشارة العظيمة التي بشَّرَ بها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام، فما دام أنَّ المسلم يستعظم الكلام في هذه الأمور، بل ويستعظم مجرد التفكير فيها، فليعلم أنها من الشيطان، وليبتعد عنها، وليتعوذ بالله تعالى منها، وليحسن الظن بالله تعالى، وليعلم بأنَّ هذا الأمر علامة على صدق إيمانه بالله، وعليه ألا يتمادى في وساوس الشيطان وحبائله وحيله، وللشيطان لـمَّـة وفتنة يعملها في قلب المسلم، ولـمَّـتـه إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وقنوط من الخير، وتشكيك في أصل الإخلاص، ولابد للمسلم أن يحصل له مثل ذلك، لأنَّ الشيطان سيورد عليه مثل هذه الإيرادات، روى أبوهريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنتُ بالله، هذا لفظ مسلم ( 2 / 513 ).
قال ابن القيم رحمه الله: وأرشد – يعني النبي صلى الله عليه وسلم– من بُـلِـيَ بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ أن يقرأ (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليم). كذلك قال ابن عباس لأبي زُميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: ما شيء أجدُه في صدري؟ قال : ما هو؟ قال: قلتُ والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شـكٍ؟ قلتُ: بلى فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عزوجل (فإن كنتَ في شكٍ مما أنزلنا إليكَ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )، قال: فقال لي: فإذا وجدتَ في نفسكَ شيئاً، فقل: ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم )، فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أولٍ ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه، لكان ذلك هو الربًّ الخلاق، ولابد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق، وغني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شيء قائم به، موجود بذاته، وكل شيء موجود به، قديم لا أول له، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاء كل شيء به، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. انتهى ( زاد المعاد 2 / 461 ).
وأثر ابن عباس المتقدم رواه أبو داود ( 5 / 335 ) وسنده حسن كما قاله الأرناؤوط.
ومن حيل الشيطان وألاعيبه أنه يزين لبعض الناس حب الفضول والسؤال عن مثل هذه الأمور العظيمة ويهونها عليهم فيسألون مثل هذه الأسئلة القبيحة، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ( لا يزال الناس يسألونكم عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله )، وفي رواية أخرى: (ليسألنكم الناس عن كل شيء حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟ ) رواهما مسلم في صحيحه ( 2 / 514 ).
بل قد حصل هذا من بعض الجهلة في عهد الصحابة الكرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزالون يسألونك يا أباهريرة حتى يقولوا: هذا الله فمن خلق الله؟ قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناسٌ من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله، فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم، ثم قال: قوموا قوموا صدق خليلي. رواه الإمام مسلم في صحيحه ( 2 / 515 ).
لذا فالواجب على المسلم ألا يسأل عن هذا الأمر وألا يسمح للوساوس أن تمكن منه، ولو خطرت على بال المسلم، وأن يحاول طردها بالاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم، والله تعالى يقول: (وإما ينزغنكَ من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم )، وأن يقول كما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فالواجب على المسلم حال الوسواس أن يفعل الآتي: 1 – أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
2 – أن يـنـتـهي ويقلع عن الاستمرار والتمادي في التفكير في هذا الأمر، بأن يشغل نفسه بأي شيء آخر.
3 – أن يقول: آمنت بالله.
4 – ألا يسأل أسئلة صريحة عن هذه الوساوس التي تدور بخاطره.
5 – أن يقرأ: ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم منه، فلا يتركه إلا ويوسوس له في شأنه كله، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ). رواه البخاري ( 13 / 23 )، ومسلم ( 16 / 170 ).
وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم ) رواه البخاري ( 3 / 283 )، ومسلم ( 7 / 101 ).
ولهذا فتجده أحرص ما يكون وأشده إذا وقف العبد بين يدي الله تعالى في الصلاة يناجيه فيوسوس له ويشغله عن صلاته حتى لا يدري ما يصلي، ولقد اشتكى بعض الصحابة الكرام من ذلك، فعن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال خنـزب فإذا أحستته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً، قال: ففعلتُ فأذهب الله عني. رواه مسلم وغيره ( مسلم 14 / 190 ).
ولهذا فلا تحزن ولا تقلق ولا تلقِ بالاً لما يوسوس به الشيطان لك من الأباطيل والأوهام التي تحزنكَ وتقلق راحتك، وهذا كله من تلبيس الشيطان على المؤمنين ليحزنهم وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله كما قال تعالى ( إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله )، فإذا جاءك الشيطان موسوساً لكَ بأنك لستَ مسلماً أو أنكَ من أصحاب الجحيم أو أنكَ سوف تدخل النار لا محالة، فتعوذ بالله تعالى منه ومن شرِّه ومن كيده ووسوسته ولمزه وهمزه، وتذكر بأن الأمر كله بيد الله تعالى وحده فهو الملك الحكم الرحمن الرحيم، وأن الجنة والنار بيد الله وحده، وأنه لا يظلم أحداً شيئاً مثقال ذرة، وأحسن الظن بالله تعالى إحساناً بالغاً فهو عند حسن ظن عبده به، فإن ظنَّ العبد به خيراً كان خيراً له، وإن ظنَّ به غير ذلك فهو كما يظن، وإن جاءك الوسواس بذلك فكذبه وقل له: بل أنا مسلم وسأدخل الجنة إن شاء الله تعالى تحقيقاً، ولا عليكَ مما قد يزيده الشيطان لك من الوسواس، فأبعد عنه، وجالس بعض الصالحين الذين يعينونك على الطاعة.
وإياك والعزلة والانطواء والابتعاد عن الناس، سيما الصالحين منهم، فإنهم خير معين –بعد الله– وخير من يذكر إذا نسي العبد، ويعين إذا ذكر.
والله تعالى أعلم.