السؤال
دار حوار بيني وبين صديقتي عن مشاهدتها للدراما والأنمي، وما إلى ذلك. وكنت أدعوها لتركها، وبينت أحكامها وتأثيراتها، فختمت كلامنا بأنها لن تشاهدها لمدة شهر، وبعد ذلك ستشاهد كما تريد.
لقد حاولت إقناعها، بقولي: "إن النية تسبق صاحبها، إما إلى الجنة، وإما إلى النار"، وقلت لها إنها غير مقبولة كتوبة؛ لأن من شروطها الإقلاع.
ولكنها احتجت بحديث معناه أنها إن لم تفعل المعصية، فلا تكتب عليها، أقصد لو أنها ماتت قبل تمام الشهر لا يكتب لها مشاهدة ما كانت تريد مشاهدته. وأنا قلت إنه يكتب.
فأفيدونا جزاكم الله خيرا، أريد الأدلة الكافية.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن التوبة المقبولة هي التي توفرت فيها شروط التوبة، وانتفت عنها موانعها، وشروط التوبة باختصار: هي الندم على فعل الذنب، والنية أو العزم الجازم على ألا يعود إليه فيما بقي من عمره، وأن يقلع عن الذنب حالًا إن كان متلبسًا به.
قال الأخضري -المالكي- في مقدمته في العبادات: وشرُوطُ اَلتَّوْبَةِ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ، وَالنِّيَّةُ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى ذَنْبٍ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَنْ يَتْرُكَ الْمَعْصِيَةَ فِي سَاعَتِهَا إِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِهَا. اهـ.
أما من ترك المعصية، ونيته أن يعود إليها بعد كذا.. فإن توبته لم تكتمل؛ لإخلاله بشرط من شروط صحتها وهو: النية على عدم العودة إلى الذنب فيما بقي من عمره.
والهمُّ بالرجوع إلى المعصية، والعزم على فعلها بعد فترة؛ يعتبر معصية، وإن كانت دون معصية الفعل. فلو مات قبل عملها كتب عليه الهَمُّ بها، والعزم عليها مجردا؛ لكونه لم يعملها، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه. صحيح البخاري.
فإن مات بعد عملها كتبت معصية ثانية، وإن تركها ولم يفعلها خوفاً من الله -تعالى- وطمعا في ثوابه، كتب له حسنة كاملة. كما صح بذلك الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فينبغي التنبه إلى أن الإصرار على الذنب أمر خطير، وهو دليل على عدم صدق الندم، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135}.
وفي مسند أحمد: ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في قوله تعالى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {آل عمران:135}: فيه إشارة إلى أن من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب. اهـ.
وقال أيضا: وقال القرطبي في المفهم: يدل هذا الحديث على عظيم فائدة الاستغفار، وعلى عظيم فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكن هذا الاستغفار هو الذي ثبت معناه في القلب مقارنا للسان لينحل به عقد الإصرار، ويحصل معه الندم، فهو ترجمة للتوبة، ويشهد له حديث: خياركم كل مفتن تواب. ومعناه الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلما وقع في الذنب عاد إلى التوبة، لا من قال: أستغفر الله بلسانه، وقلبه مصر على تلك المعصية. فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى الاستغفار.
قلت: ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس مرفوعا: التائب من الذنب كمن لا ذنب له. والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه.
والراجح أن قوله: والمستغفر إلى آخره موقوف، وأوله عند ابن ماجه والطبراني من حديث ابن مسعود وسنده حسن... اهـ.
وانظري الفتوى: 32048.
والله أعلم.