الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم -أخي السائل أولا- أن التفكير في الانتحار ما هو إلا مكيدة من الشيطان، والانتحار لا ينقل صاحبه من شقاء إلى راحة، بل إلى شقاء أشد، إلى عذاب الله، وسخطه، وقد بينا خطورة الانتحار في الفتوى: 454693.
واجتهادك، وسعيك، ومحاولتك الاستقامة على طاعة الله، وتألم قلبك من الوقوع في المعصية، هذا في ذاته أمارة على أن الله تعالى يريد بك الخير، ولو لم يرد بك الخير لجعلك من الغافلين الذين أنساهم أنفسهم، فلا يفكرون أصلا في الاستقامة، ولا يتألمون للوقوع في المعصية، وقد أقسم الله تعالى في كتابه بالنفس اللوامة، أخرج الإمام أحمد بن حنبل في الزهد: عن الحسن فِي قَوْلِهِ -عز وجل: وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ـ قال: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ... فَلَا تَرَاهُ إِلَّا يُعَاتِبُهَا، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا، فَلَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ. اهــ.
ووقوعك في الذنب بعد التوبة أمر لا غرابة فيه، فالمؤمن يذنب، ثم يتوب، ثم يذنب، ثم يتوب، وهكذا حتى يستقيم حاله، ففي الحديث: مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَلَهُ ذَنْبٌ يَعْتادُهُ: الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، أَوْ ذَنْبٌ هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يُفَارِقَ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ خُلِقَ مُفْتَنًا، تَوَّابًا، نَسِيًّا، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
قال المناوي: مفتَّنًا ـ أي ممتحنًا يمتحنه الله بالبلاء، والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيرًا، توابًا نسيًا، إذا ذكر ذكر ـ أي: يتوب، ثم ينسى فيعود، ثم يتذكر فيتوب، هكذا يقال: فتنه يفتنه إذا امتحنه. اهـ.
وجاء عن علي ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: خياركم كل مفتن تواب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله، ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله، ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال يستغفر الله، ويتوب، قيل: حتى متى؟ قال علي: حتى يكون الشيطان هو المحسور. رواه ابن أبي الدنيا.
وقيل للحسن البصري: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود؟ فقال: ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذا -أي: باليأس من التوبة، والكف عنها- فلا تملّوا من الاستغفار.
وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين -يعني أن المؤمن كلما أذنب تاب-.
من أعظم الآفات التي تعرض للسائر إلى الله -جل وعلا- آفة التعجل في طلب النتائج، سواء في صلاح قلبه، أو في إجابة دعوته، وما يترتب عليها من الاستحسار، وترك العمل، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا في مثل قوله: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي. رواه البخاري، ومسلم.
وفي مثل قوله: لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء. رواه مسلم.
قال ابن القيم: ومن الآفات التي تمنع أثر الدعاء أن يتعجل العبد، ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذراً، أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده، ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه، وأهمله. اهــ.
فاستمر -أخي السائل- في مجاهدة نفسك على الدعاء، وعلى الاستقامة، ولا تستطل الطريق، فالله تعالى وعد من جاهد نفسه بالهداية، فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {العنكبوت:69}.
قال الشوكاني في تفسيره: أَيْ: جَاهَدُوا فِي شَأْنِ اللَّهِ لِطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَرَجَاءِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ـ أَيِ: الطَّرِيقَ الْمُوصِّلَ إِلَيْنَا. اهــ.
ونوصيك أخيرا بالحذر من الوحدة، وأن تحرص على صحبة الصالحين، فإنهم عون لك على الطاعة، وتذكير لك من الغفلة، وأنس لك من الوحشة التي تشعر بها، وانظر للأهمية الفتوى: 33789.
والله أعلم.