السؤال
أبي دائم الصراخ في البيت على أمي، وإخوتي، ويهجر البيت، ويذهب إلى بيت أمه، وعندما يعود يبدأ بالتصرف بالإكراه، والصراخ على الجميع، فقلت لنفسي علي أن أتصل على أمه -الجدة- وأكلمها، عساها أن تتكلم معه، وتلين قلبه علينا، إلا أنها بدأت بإهانتي، وشتمي، والدعاء علي بالموت، وبعدها قامت بالتحدث إلى أبي، وقالت عكس ذلك! وبدأ أبي بشتمي، وإهانتي، ومنعني من دخول بيته، ورؤية أمي، وإخوتي. فقلت له إنني حزينة على ظلمك لي، وأنني هنت عليك، وقلت ما ليس بي، ظلما، وسمحت لجدتي بالدعاء علي، والكذب، رغم أنه تأكد من بعض الموجودين أنها دعت علي، وشتمتني، وأهانتي ظلما، إلا أنه لم يرد، ولم يقل سوى إنها امرأة كبيرة. فقلت له -وأنا في حالة غضب، وبكاء شديدين- إنه ليست لك ابنة، وإنني بالنسبة لك ميتة، ولا أريد أبًا مثلك يظلمني، ولا يرد لي حقي.
فهل يعتبر هذا من عقوق الوالدين؟ علما أنه كان إذا رآني في السابق لا يتحدث معي، ولا يسأل عني، ولا يأتي لزيارتي في العيد، ويعرف منذ صغري بالقساوة علي، وأشعر أنه يكرهني، ودائما يتجاهلني وكأنني غير موجودة. وأنا متزوجة، وأم لابنتين، ومتفوقة في دراستي وعملي، ومجتهدة، وملتزمة بالآداب والطاعات؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فحقّ أبيكِ عليكِ عظيم، ومهما أساء إليكِ، أو ظلمك؛ فهذا لا يسقط حقّه عليكِ، ولا يبيح لكِ الإساءة إليه.
جاء في الأدب المفرد للبخاري -رحمه الله-: باب بر والديه وإن ظلما ـ وأورد تحته أثرًا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: ما من مسلم له والدان مسلمان، يُصبح إليهما محتسبًا، إلا فتح له الله بابين ـ يعني: من الجنة ـ وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما، لم يرضَ الله عنه حتى يرضى عنه، قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. انتهى.
وراجعي الفتوى: 401791.
ولا مانع من بذل النصح له، ونهيه عن المنكر، وأمره بالمعروف، لكن برفق، وأدب من غير إغلاظ، ولا إساءة، فإنّ أمر الوالدين بالمعروف، ونهيهما عن المنكر ليس كأمر، ونهي غيرهما.
قال ابن مفلح الحنبلي -رحمه الله-: قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى: يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعَلِّمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ، وَلَا إسَاءَةٍ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ. انتهى من الآداب الشرعية.
فمعاملة الوالد تكون بالأدب، والتوقير، والتواضع، وإلانة الكلام، قال تعالى:.. فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء: 23- 24}.
فما حصل منكِ من الكلام مع أبيكِ عند غضبكِ؛ فهو غير جائز، وإذا كان والدكِ تأذى من هذا الكلام، فنخشى أن يكون عقوقا منكِ، وراجعي ضابط العقوق المحرم في الفتوى: 299953.
فبادري بالتوبة إلى الله تعالى، واعتذري من أبيكِ، واطلبي منه مسامحتكِ، وأخلصي النية لله، وأبشري ببركة بركِ بأبيكِ؛ فهو من أحب الأعمال إلى الله، وأعظمها ثوابا، ومن كان حريصا على برّ والديه؛ فإنّ الله يعفو عن هفوته، ويتجاوز عن زلته، قال تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا {الإسراء: 25}
قال الطبري -رحمه الله- في تفسيره: وقوله: إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ ـ يقول: إن أنتم أصلحتم نياتكم فيهم، وأطعتم الله فيما أمركم به من البرّ بهم، والقيام بحقوقهم عليكم، بعد هفوة كانت منكم، أو زلة في واجب لهم عليكم، مع القيام بما ألزمكم في غير ذلك من فرائضه، فإنه كان للأوّابين بعد الزَّلة، والتائبين بعد الهَفْوة غفورا لهم. انتهى.
والله أعلم.