الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحقّ الأّم على ولدها عظيم، وبرّها وطاعتها في المعروف من أوكد الواجبات، ومن أفضل الطاعات. كما أنّ عقوقها من أكبر الكبائر.
وقد أمرنا الله -تعالى- بمخاطبة الوالدين بالأدب والتقدير والتواضع.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا {الإسراء: 23}: أي لينا لطيفا مثل: يا أبتاه ويا أمّاه من غير أن يسميهما، ويكنيهما.
قال عطاء: وقال ابن البداح التجيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله: وقل لهما قولا كريما. ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. ......
فينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظره. انتهى مختصرا.
فإذا بقيت أمّك غاضبة عليك وبقيت مصرا على قطعها وعدم الاعتذار منها؛ فأنت على خطر عظيم. فالعاق لأمّه إذا لم يتب من العقوق ولم يكن مستحلا له؛ فهو في مشيئة الله -تعالى- إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.
وقد ورد وعيد شديد لمن يعق والديه؛ ففي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» قلنا: بلى يا رسول الله، قال: " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور" فما زال يقولها، حتى قلت: لا يسكت.
وفي سنن النسائي عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى.
قال المناوي -رحمه الله- في التيسير بشرح الجامع الصغير: (والعاق لوالديه) أي إن استحل كل منهم ذلك، وإلا فالمراد مع السابقين الأولين، أو حتى يطهرهم بالنار. انتهى.
ومن كان حريصا على مرضاة ربه؛ فعليه أن يحرص على بر والديه، ويحذر من عقوقهما.
ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قَالَ: رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرب في سخط الوالد.
قال المظهري -رحمه الله- في المفاتيح في شرح المصابيح: قوله: "رضا الرب في رضا الوالد"؛ يعني: إذا رضي الوالد رضي الرب عنه، وكذلك السخط.
وذكر الوالد، والمراد منه: الوالدة أيضا، بل حق الوالدة آكد. انتهى.
وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع هذا الباب، أو احفظه. رواه ابن ماجه والترمذي.
قال المباركفوري -رحمه الله- في تحفة الأحوذي: قَالَ الْقَاضِي: أَيْ خَيْرُ الْأَبْوَابِ وَأَعْلَاهَا.
وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى وُصُولِ دَرَجَتِهَا الْعَالِيَةِ؛ مُطَاوَعَةُ الْوَالِدِ، وَمُرَاعَاةُ جَانِبِهِ. انتهى.
فالواجب عليك التوبة إلى الله -تعالى- والاعتذار من أمك عن إساءتك إليها في الكلام.
وحلفك اليمين على عدم الاعتذار؛ لا يمنعك من الاعتذار؛ فهذه اليمين يجب عليك أن تحنث فيها؛ لأنها يمين على ترك واجب.
قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ، أَوْ تَرْكِ وَاجِبٍ، فَحَلُّهَا وَاجِبٌ. انتهى.
وإذا كنت حلفت بالله على عدم الاعتذار، ثم حلفت بعدها على عدم الحنث؛ فعليك كفارتان.
أمّا إذا كنت حلفت يمينا واحدة على عدم الاعتذار وعدم الحنث؛ فعليك كفارة واحدة.
جاء في شرح مختصر خليل للخرشي: من حلف على شيء أن لا يفعله أو أن يفعله، ثم حلف أنه لا يحنث في يمينه هذه، ثم وقع عليه الحنث؛ فإن الكفارة تتعدد عليه واحدة لحنثه في يمينه والأخرى لحلفه على أن لا يحنث وقد وقع منه الحنث؛ لأن الثانية لما كانت على غير لفظ الأولى لم تحمل على التأكيد، خلافا لما في المبسوط. انتهى.
وإذا تبت واعتذرت من أمك وأحسنت إليها؛ فتوبتك مقبولة إن شاء الله، ولا شيء عليك.
وراجع الفتوى: 483439
والله أعلم.