الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الشهداء لا يدخلون الجنة بأجسادهم قبل يوم القيامة، ولكن أرواحهم هي التي تدخلها، كما ثبت في صحيح مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا، حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا.
وفي سنن الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني عَن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ، تَعْلُقُ مِنْ ثَمَرَةِ الْجَنَّةِ، أَوْ شَجَرِ الْجَنَّةِ.
وليس هذا خاصا بالشهداء بل المؤمنون كذلك، كما ثبت فيما رواه النسائي وابن ماجه وصححه الألباني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يُبْعَثُ.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وأرواح المؤمنين في الجنة؛ كما جاءت بذلك الآثار، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: نسمة المؤمن تعلق من الجنة، أي تأكل، ولم يوقت في ذلك وقت قبل يوم القيامة. انتهى.
فالحاصل أن الشهداء والمؤمنين إنما يدخلون الجنة بأرواحهم في البرزخ، وأما يوم القيامة فيدخلون الجنة بأجسادهم وأرواحهم. وراجع الفتوى: 245296.
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن هذا الدخول إنما هو دخول عارض، ويوم القيامة يكون دخول الخلود.
كما ذكر الإمام ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
فقد قال -رحمه الله-: أما قولكم: إن الله -سبحانه- أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة ولم يأت زمن دخولها بعد، فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام.
وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ليلة الإسراء، وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة، وهذا غير الدخول الذي أخبر الله به في يوم القيامة، فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة. انتهى.
وفي هذا الدخول يكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة ولا يسبقه إلى دخولها أحد من الناس كائنا من كان، وقد ثبتت عدة نصوص في كونه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة منها حديث أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة.. رواه الترمذي.
وحديث: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول قارع باب الجنة. رواه مسلم.
وفي صحيح ابن خزيمة: عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: إنّي لأوّل النّاس تنشقّ الأرض عن جمجمته يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيّد النّبيين يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة ولا فخر ... اهـ.
ثم إن جميع ما ورد في شأن الشهداء من الفضائل والأجور سيسبقهم النبي صلى الله عليه وسلم لها. فإنه صلى الله عليه وسلم مات شهيداً، كما قال ابن إسحاق وابن القيم وغيرهما.
ويدل لذلك حديث: ما زالت أكلة خيبر تعاودني في كل عام، حتى كان هذا أوان قطع أبهري. رواه ابن السني وأبو نعيم وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة؛ ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم. ذكره البخاري تعليقا.
وفي المستدرك للحاكم أن أم مبشر -وهي أم بشر بن البراء الذي أكل السم معه بخيبر- قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبض فيه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله ما تتهم بنفسك، فإني لا أتهم بابني إلا الطعام الذي أكله معك بخيبر، وكان ابنها بشر بن البراء بن معرور مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا لا أتهم غيرها، هذا أوان انقطاع أبهري. والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، والألباني.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ: (مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأُكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مِنَ الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنِّي)، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدًا. انتهى.
وجاء في شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: ومن المعجزة أنه لم يؤثّر فيه في وقته؛ لأنهم قالوا: إن كان نبيًّا لم يضره، وإن كان ملكًا استرحنا منه، فلمَّا لم يؤثر فيه تيقنوا نبوته حتى قيل: إن اليهودية أسلمت، ثم نقض عليه بعد ثلاث سنين لإكرامه بالشهادة. انتهى.
والله أعلم.