السؤال
ما حكم صناعة صور لذوات الأرواح؟ وما حكم اقتنائها والاحتفاظ بها؟ وما هي الصور التي تمنع دخول الملائكة؟
ما حكم صناعة صور لذوات الأرواح؟ وما حكم اقتنائها والاحتفاظ بها؟ وما هي الصور التي تمنع دخول الملائكة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما المسألة الأولى -وهي حكم صناعة صور لذوات الأرواح باليد، نحتا، أو نقشا، أو رسما، ونحو ذلك-:
فهي محل خلاف وتفصيل كثير بين أهل العلم من قديم. فمنهم من يخص التحريم بما له ظل (المجسم)، ومنهم من يعمم الحرمة فيما له ظل، وما ليس له ظل (المسطح)، ثم هؤلاء منهم من يستثني من المسطح ما كان في الفراش، والبساط، والوسائد، ونحوها مما يمتهن بالاستعمال، ومنهم من يستثني ما أزيل منه ما لا تبقى الحياة بدونه، ومنهم من يقصر ذلك على مقطوع الرأس خاصة.
وسبب الخلاف هو ما يظهر من التعارض بين النصوص العامة التي تفيد الحرمة دون تخصيص، وبين النصوص التي تخص بعض الصور بالرخصة. ثم اختلافهم في فهم مناط الرخصة.
وأهم النصوص الواردة في الرخصة في صور ذوات الأرواح، هي:
1ـ حديث أبي طلحة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة، إلا رقما في ثوب. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أن عبيد الله بنَ عبد الله دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده، قال: فوجدنا عنده سهل بن حنيف، قال: فدعا أبو طلحة إنسانا، فنزع نمطا تحته، فقال له سهل بن حنيف: لم تنزعه؟ قال: لأن فيه تصاوير، وقد قال فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قد علمت، قال سهل: أولم يقل: إلا ما كان رقما في ثوب. قال: بلى، ولكنه أطيب لنفسي. رواه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وابن حبان، وصححه الألباني.
2ـ حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتاني جبريل، فقال: إني كنت أتيتك الليلة، فلم يمنعني أن أدخل عليك البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر يقطع، فيجعل منه وسادتان منتبذتين توطآن، ومر بالكلب يخرج. رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان، وصححه الألباني.
3ـ حديث عائشة قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيها تماثيل، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هتكه، وقال: أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو وسادتين. رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: فأخذت نمطا فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط، عرفت الكراهية في وجهه، فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين. قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك عليَّ.
وفي رواية للبخاري: فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا في البيت يجلس عليهما.
وفي رواية لمسلم: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفق عليهما.
وفي رواية لأحمد: فطرحته فقطعته مرفقتين، فقد رأيته متكئا على إحداهما، وفيها صورة.
قال أبو العباس القرطبي في المفهم: قول عائشة: "فقطعنا منه وسادتين حشوتهما ليفا" يحتمل أن يكون هذا التقطيع أزال شكل تلك الصور وأبطلها، فيزول الموجب للمنع. ويحتمل أن تكون تلك الصور أو بعضها باقيا، لكنها لما امتهنت بالقعود عليها سامح فيها. وقد ذهب إلى كل احتمال منهما طائفة من العلماء. اهـ.
وقال ابن العربي في عارضة الأحوذي: أما الوعيد على المصورين فهو كسائر الوعيد في أهل المعاصي، معلق بالمشيئة كما بيناه، وموقوف على التوبة كما شرحناه.
وأما كيفية الحكم فيها فإنها محرمة إذا كانت أجسادا بالإجماع، فإن كانت رقما ففيها أربعة أقوال:
الأول: أنها جائرة؛ لقوله في الحديث: إلا ما كان رقما في ثوب.
الثاني: أنه ممنوع لحديث عائشة: دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بقرام فيه صورة فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: إن أشد الناس عذابا المصورون.
الثالث: أنه إذا كانت صورة متصلة الهيئة قائمة الشكل منع، فإن هتك وقطع وتفرقت أجزاؤه جاز؛ للحديث المتقدم، قالت فيه: وجعلت منه وسادتين كان يرتفق بهما.
الرابع: أنه إذا كان ممتهنا جاز وإن كان معلقا لم يجز.
والثالث أصح. اهـ.
وهذا الذي صححه ابن العربي، هو ما يظهر رجحانه فيما يُرخَّص في اقتنائه.
وأما صنع الصورة ابتداء، فالأصل فيه المنع، ولابد هنا من الانتباه للفرق بين الأمرين، فالرخصة ليست في عمل الصور، وإنما في استعمال ما فيه صورة، أو اقتنائه في بعض الأحوال. فهذا هو الذي وردت فيه الأحاديث السابقة في الرخصة، وليس في شيء منها الرخصة في صناعة الصور نفسها.
قال النووي في شرح مسلم: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال؛ لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها ... هذا حكم نفس التصوير.
وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان، فإن كان معلقا على حائط، أو ثوبا ملبوسا، أو عمامة، ونحو ذلك مما لا يعد ممتهنا؛ فهو حرام، وإن كان في بساط يداس، ومخدة، ووسادة، ونحوها مما يمتهن فليس بحرام، ولكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت فيه كلام نذكره قريبا إن شاء الله. ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. اهـ.
وقال ابن حجر الهيتمي في (الزواجر): قول الفقهاء: "ويجوز ما على الأرض والبساط ونحوهما من كل ممتهن" المراد به أنه يجوز بقاؤه ولا يجب إتلافه. وأما فعل التصوير لذي الروح فهو حرام مطلقا. اهـ. باختصار وتصرف.
وقال ابن عابدين في حاشيته (رد المحتار): هذا كله في اقتناء الصورة، وأما فعل التصوير فهو غير جائز مطلقا؛ لأنه مضاهاة لخلق الله تعالى. اهـ.
وقال ابن الجوزي في «كشف المشكل»: وهذا محمول على جواز استعماله بأن يوطأ ويداس، فأما عمل الصورة فلا يحل. اهـ.
وهذا في الصور المصنوعة باليد، وأما الصور المأخوذة بالآلة (الفوتوغرافية)، فالخلاف فيها على نحو آخر، حيث أخرجها بعض أهل العلم من التصوير المحرم باعتبارها ليست من فعل المصور، وإنما هي حبس للظل عن طريق الآلة، فليس فيها مضاهاة لخلق الله، بل هي تصوير عين ما خلق الله، كما سبق بيانه في الفتوى: 1935.
وأما المسألة الثانية -وهي اقتناء الصور-:
فقد اختلف أهل العلم أيضا في ماهية الصور التي يرخص في اقتنائها، واستعمال ما هي فيه. فمنهم من أطلق الرخصة فيما ليس له ظل (المسطح)، ومنهم من قيد ذلك بما كان ممتهنا بالاستعمال، أو ما أزيل منه ما لا تبقى بدونه الحياة، ومنهم من يقصر ذلك على مقطوع الرأس خاصة، أو الصورة الصغيرة التي لا تتبين تفاصيل أعضائها إلا من قريب.
والذي يظهر لنا من الأحاديث التي قدمناها في الرخصة: أن ذلك في الصور الممتهنة بالوطأ والتوسد والاتكاء ونحو ذلك، بخلاف ما يلبس أو يعلق على جدار، كما سبق في ترجيح النووي الشافعي. وكذلك الصور المقطوعة الرأس خاصة. وألحق كثير من أهل العلم بالرأس ما تزول به الحياة من أجزاء الإنسان.
ورجَّح ذلك أيضا ابن عبد البر المالكي في التمهيد، فقال: ذهب من سلف العلماء جماعة إلى أن ما كان من رقم الصور فيما يوطأ، ويمتهن، ويتكا عليه من الثياب؛ لا بأس به. اهـ.
ثم أسند ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، وابن سيرين، وعكرمة مولى ابن عباس، وعكرمة بن خالد، وسعيد بن جبير، ثم قال: هذا أعدل المذاهب وأوسطها في هذا الباب، وعليه أكثر العلماء، ومن حمل عليه الآثار لم تتعارض على هذا التأويل، وهو أولى ما اعتقد فيه. اهـ.
ورجحه كذلك الطحاوي الحنفي في (اختلاف العلماء) وابن الجوزي الحنبلي في «كشف المشكل».
وأما المسألة الثالثة -وهي ماهية الصورة التي تمنع دخول الملائكة- فهي كذلك محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يطلق الحكم في كل الصور حتى ما يرخص في اقتنائه منها؛ عملا بالعموم. ومنهم من يخص ذلك بما يحرم اقتناؤه من الصور.
قال ابن الملك الكرماني في «شرح المصابيح»: "بيتا فيه كلب" يعم جميع أنواع الكلاب، وقيل: يختص بما لا يجوز اقتناؤه منها. "ولا تصاوير"، جمع تصوير، يعم جميع أنواع الصور، وقد رخص بعض فيما كان في الأنماط الموطوءة بالأرجل. اهـ.
والأظهر أن ما يرخص فيه من الصور لا يمنع دخول الملائكة، وهذا مذهب الجمهور، واختيار الخطابي، والقاضي عياض، وأبي العباس القرطبي، وغيرهم من شراح الحديث.
واستظهر النووي التعميم في منع دخول الملائكة، وإن كانت الصورة مما يرخص فيه، فقال في شرح مسلم: قال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه. وأشار القاضي إلى نحو ما قاله الخطابي.
والأظهر أنه عام في كل كلب، وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث، ولأن الجرو الذي كان في بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت السرير كان له فيه عذر ظاهر، فإنه لم يعلم به، ومع هذا امتنع جبريل -صلى الله عليه وسلم- من دخول البيت، وعلل بالجرو، فلو كان العذر في وجود الصورة والكلب لا يمنعهم لم يمتنع جبريل. اهـ.
وفي هذا الاستدلال نظر! فإن الجمهور لم يقولوا: إن الصورة المحرمة التي تمتنع الملائكة من دخول مكانها، إن وُجِدت بغير علم صاحب المكان، لم تمتنع الملائكة، ولم يجعلوا جهله بوجودها سببا للرخصة، وإنما سبب الرخصة في هيئة الصورة ذاتها، واستثناء الشرع لها.
وقد رجح ابن حجر العسقلاني مسلك التخصيص، وقوَّى مذهب الخطابي، فقال في فتح الباري بعد نقل كلام الخطابي: وتأتي الإشارة إلى تقوية ما ذهب إليه الخطابي في باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ... اهـ.
وقال في موضع آخر: وفي رواية النسائي: "إما أن تقطع رؤوسها، أو تجعل بسطا توطأ". وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أن الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه باقية على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة، أو غير ممتهنة لكنها غيرت من هيئتها إما بقطعها من نصفها، أو بقطع رأسها، فلا امتناع.
وقال القرطبي: ظاهر حديث زيد بن خالد، عن أبي طلحة الماضي قيل: إن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت الذي فيه صورة إن كانت رقما في الثوب، وظاهر حديث عائشة المنع ويجمع بينهما بأن يحمل حديث عائشة على الكراهة وحديث أبي طلحة على مطلق الجواز وهو لا ينافي الكراهة. قلت: وهو جمع حسن لكن الجمع الذي دل عليه حديث أبي هريرة أولى منه. اهـ.
والمقصود أن جمهور العلماء على تخصيص الصور التي تمنع الملائكة من الدخول، وهذا هو الأرجح.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني