الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلعل هذه المسائل الست هي المسائل المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيدكم. أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الترغيب.
وأما وسائل الحفاظ على هذه المسائل والأخلاق النبيلة والبعد عن أضدادها فهو حاجة كل مسلم، ويتعين على الجميع البحث عنها، ومن أهم وسائل ذلك تقوية الإيمان وسؤال الله تعالى أن يحسن أخلاقنا ويعطينا الاستقامة على الطاعات، وقد كان نبيناً صلى الله عليه وسلم يسأل الله فيقول: اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. رواه مسلم، وكان يقول: اللهم كما حسنت خَلْقي، فحسن خُلُقي. رواه الطبراني.
ومن الوسائل المساعدة على ذلك أيضاً الإكثار من المطالعة في كتب الترغيب والترهيب، ومن أهمها رياض الصالحين، والمتجر الرابح للدمياطي، وفضائل الأعمال للمقدسي، والترغيب والترهيب للمنذري.
ومنها الالتزام بالبيئات الصالحة والمساجد ومجالس العلم، وأن تصاحب من فيها من طلاب العلم وأهل الخير، وأن تشتغل بالتعلم والأعمال الصالحة معهم، والهجران لمجالس السوء وأصحاب السوء، كما أوصى العالم قاتل المائة: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. كما في حديث مسلم، وفي الحديث: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. رواه أبو داود والحاكم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفي الحديث: مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك أما أن يحذيك وأما أن تبتاع منه وأما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير أما أن يحرق ثيابك وأما أن تجد منه ريحا منتنة. رواه البخاري ومسلم.
ومنها التعرف على ثمرات الاستقامة على أعمال الخير، فالاستقامة سبب في بسط الرزق والتوسع في الدنيا، قال الله تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا* لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا {الجن:16-17}.
وقد استحق الذين استقاموا في الحياة أن تتنزل عليهم الملائكة وهم في أثناء نزع الروح ليطردوا من حياتهم الخوف والحزن وليبشروهم بالجنة وليعلنوا وقوفهم إلى جانبهم في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ* نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ {فصلت:30-31-32}، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {الأحقاف:13-14}.
ومما يساعد على حمل العبد نفسه على الالتزام بجميع الطاعات أربعة أمور:
أولاً- المشارطة: وذلك بأن تشترط عليها أن تقلع عن السوء، وأن تلزم تقوى الله وطاعته وحبذا لو كان ذلك منك في كل صباح حتى تصل إلى ما تريد.
ثانياً- المراقبة: وذلك بأن تراقب نفسك هل هي فعلاً قد أوفت بما اشترطته عليها أم لا.
ثالثاً- المحاسبة: بأن تحاسبها على الأفعال والأقوال.
رابعاً- المجاهدة: بأن تقصرها قصراً على طاعة الله وتلزمها إلزاماً بمخالفة الهوى والشيطان.
وراجع تفصيل هذه الخطوات وغيرها من الوسائل في كتاب مختصر منهاج القاصدين، والداء والدواء، ومدارج السالكين لابن القيم، ومنهاج المسلم للجزائري، وإحياء علوم الدين للغزالي.
ومما يساعد على الصدق عدم التحدث بكل ما يسمعه المرء إلا إذا تأكد من تحققه وعلم أن في التحدث به مصلحة، واستحضار الصدق وعقوبة الكذب وأنه مسؤول عن أقواله وأفعاله، قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ {ق:18}، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. رواه البخاري ومسلم. قال النووي: فهذا الحديث المتفق على صحته نص صريح في أنه لا ينبغي أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت له مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم.
وقد روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً. وقال صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع. رواه مسلم، وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: .... وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق...
وعلى العبد أن يتذكر أن حصائد الألسن هي أعظم أسباب الوقوع في النار لما في حديث الترمذي عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، قال: كف عليك هذا، فقلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.
ومما يساعد على أداء الأمانة والكف عن ظلم الناس استشعار مراقبة الله وعظمة وخطورة حقوق المخلوقين وأنها لا تغفر إلا بالتوبة والتحلل من أصحابها، وأن خيانة الأمانة من شيم المنافقين، فالواجب على من كانت عنده أمانة أن يحفظها، وأن يصونها حتى يؤديها إلى أهلها، كما أمرنا الله بذلك فقال: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {النساء:58}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك. رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم خيانة الأمانة علامة من علامات النفاق، فقال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. رواه البخاري ومسلم.
واعلم أن ذنوب حقوق العباد مع العباد ومنها ظلمهم باليد واللسان وغير ذلك لا تغفر إلا أن يتوب منها الظالم ويتحلل عنها صاحب الحق، قال صلى الله عليه وسلم: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يوفي الذي عليه أخذ من سيئات صاحبه ثم طرحت عليه ثم طرح في النار. رواه الترمذي، قال حسن صحيح.
ومما يساعد على حفظ الفرج وغض البصر ما ذكرنا في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 34932، 43020، 49259، 30035.
والله أعلم.