الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فههنا مسألتان:
الأولى: حجز مكان في المسجد بسجادة ونحوها بنفسه أو بوكيله؟
الثانية: القيام من المكان الذي قعد فيه لقضاء حاجة ونحوها ثم العود إليه قبل إقامة الصلاة سواء وضع فيه سجادة ونحوها أم لا؟
أما المسألة الأولى: فقد اختلف فيها أهل العلم فأجازها الشافعية والحنابلة ومنعها آخرون كالمالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهذه طائفة من أقوالهم:
قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: قال الشافعي وأصحابنا: يجوز أن يبعث الرجل من يأخذ له موضعاً يجلس فيه، فإذا جاء الباعث تنحى المبعوث، ويجوز أن يفرش له ثوباً ونحوه، ثم يجيء ويصلي موضعه فإذا فرشه لم يجز لغيره أن يصلي عليه، ولكن له أن ينحيه ويجلس مكانه، وينبغي أن ينحيه بحيث لا يدفعه بيده، فإن دفعه دخل في ضمانه، ذكره صاحب البيان وغيره.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في كشاف القناع: وإن وجد مصلى مفروشاً فليس له رفعه. لأنه كالنائب عنه، ولما فيه من الافتيات على صاحبه والتصرف في ملكه بغير إذنه والإفضاء إلى الخصومة، وقاسه في الشرح على رحبة المسجد، ومقاعد الأسواق (ما لم تحضر الصلاة) فله رفعه والصلاة مكانه لأنه لا حرمة له بنفسه، وإنما الحرمة لربه ولم يحضر، (ولا الجلوس ولا الصلاة عليه) وقدم في الرعاية يكره، وجزم جماعة بتحريمه، قال في شرح المنتهى: وليس له أن يدعه مفروشاً ويصلي عليه فإن فعل فقال في الفروع، في باب ستر العورة: لو صلى على أرضه أو مصلاه بلا غصب، صح النهي، وتقدم هناك: جاز وصحت ولعل ما هناك إذا كان حاضراً، أو صلى معه على مصلاه فلا يعارضه ما هنا لغيبته، وفيه شيء، قال في الفروع: ويتوجه إن حرم رفعه أي المصلى (فله فرشه) وإلا كره (ومنع منه) أي الفرش (الشيخ، لتحجره مكانا على المسجد) كحفره في التربة المسبلة قبل الحاجة إليه.
وأما المالكية وابن تيمية فقد منعوا من ذلك، قال الشيخ عليش رحمه الله تعالى في منح الجليل: ونص في المدخل على أنه لا يستحق السابق إلى المسجد بإرسال سجادته إليه وأنه غاصب لذلك المحل. قال... فإن بعث سجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت فيه وتأخر إلى أن يمتلئ المسجد بالناس، ثم يأتي يتخطى رقابهم فيقع في محذورات جملة منها: غصبه ذلك الموضع الذي فرشت به السجادة لأنه ليس له حجره، وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته، ومن سبق فهو أولى، ولم أعلم أحداً قال إن السبق للسجادات، وإنما هو لبني آدم، فوقع في الغصب لمنعه السابق إلى ذلك المكان، ومنها تخطي رقاب المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم. رواه الإمام أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام: من تخطى رقبة أخيه جعله الله جسراً. رواه الإمام أحمد، وظاهر كلام القرطبي في تفسيره في سورة المجادلة أنه يستحق السبق بذلك، فإنه قال: إذا أمر إنسان أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكاناً يقعد فيه، فإذا جاء الآمر يقوم له منه المأمور ويقعد الآمر فيه فلا يكره، لما روي أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له يوم الجمعة فيجلس فيه، فإذا جاء قام له منه. ثم قال: وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد. انتهى. ونقله ابن فرحون في تاريخ المدينة محتجاً به.. وتخريجه إرسال سجادة على إرسال الغلام غير ظاهر، فالصواب ما تقدم عن صاحب المدخل من أن السبق بالفرش لا يعتبر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة بالمنع من ذلك فقال: ليس لأحد أن يتحجر من المسجد شيئاً، لا سجادة يفرشها قبل حضوره ولا بساطا ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها في أصح قولي العلماء. انتهى.
وقال رحمه الله في موطن آخر: فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم علم أو اعتكاف ونحو ذلك، فهو أحق به حتى يقضي ذلك العمل، ليس لأحد إقامته منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ولكن يوسع ويفسح، وإذا انتقض وضوؤه ثم عاد، فهو أحق بمكانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك، قال: إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه، فهو أحق به.
وقال رحمه الله في موطن آخر: ليس لأحد أن يفرش شيئاً ويختص به مع غيبته، ويمنع به غيره، هذا غصب لتلك البعقة، ومنع للمسلمين مما أمر الله تعالى به من الصلاة، والسنة أن يتقدم الرجل بنفسه، وأما من يتقدم بسجادة فهو ظالم إن لم ينته عنه، ويجب رفع تلك السجاجيد، ويمكن الناس من مكانها، هذا مع أن أصل الفرش بدعة، لا سيما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما قدم عبد الرحمن بن مهدي من العراق وفرش في المسجد أمر مالك بن أنس بحبسه تعزيراً له حتى روجع في ذلك، فذكر أن فعل هذا في مثل هذا المسجد بدعة يؤدب صاحبها. وعلى الناس الإنكار على من يفعل ذلك والمنع منه، لا سيما ولاة الأمر الذين لهم ولاية على المسجد، فإنه يتعين عليهم رفع هذه السجاجيد، ولو عوقب أصحابه بالصدقة بها لكان هذا مما يسوغ في الاجتهاد. انتهى.
والحاصل أن هذه المسألة من مسائل الخلاف بين أهل العلم، والذي ننصح به الابتعاد عن ذلك حذراً من الوقوع في المحذور.
المسألة الثانية: وهي من قام من مجلسه لحاجة ثم عاد إليه قبل إقامة الصلاة فهو أحق به من غيره لورود النص بذلك.
قال الإمام النووي رحمه الله في المجموع: إذا جلس في مكان من المسجد فقام لحاجة كوضوء وغيره ثم عاد فهو أحق به للحديث. انتهى، ويعني بالحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم... وفي حديث أبي عوانة: من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به. قال الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به. قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة -مثلاً- ثم فارقه ليعود بأن فارقه ليتوضأ أو يقضي شغلاً يسيراً ثم يعود لم يبطل اختصاصه، بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره فله أن يقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول، قال بعض العلماء: هذا مستحب، ولا يجب، وهو مذهب مالك، والصواب الأول، قال أصحابنا، ولا فرق بين أن يقوم منه، ويترك فيه سجادة ونحوها أم لا فهذا أحق به في الحالين. قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها.
وقال النووي رحمه الله: قال أصحابنا: وسواء ترك الأول في موضعه ثوباً ونحوه أم لا فهو أحق به في الحالين، وسواء قام لحاجة بعد الدخول في الصلاة أو قبله، أما إذا فارق لغير عذر فيبطل حقه بلا خلاف.
وقال البهوتي في كشاف القناع: (ومن قام من موضعه) من المسجد (لعارض لحقه ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به). لما روى مسلم عن أبي أيوب مرفوعاً: من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به. وقيده في الوجيز بما إذا عاد ولم يتشاغل بغيره (ما لم يكن صبياً قام في صف فاضل أو في وسط الصف. ثم قام لعارض ثم عاد، فيؤخر كما لو لم يقم منه بالأولى (فإن لم يصل) العائد (إليه) أي إلى مكانه قريباً بعد قيامه منه لعارض (إلا بالتخطي، جاز) له التخطي (كالفرجة) أي كمن رأى فرجة لا يصل إليها إلا به. ذكره في الشرح وابن تميم. انتهى.
والله أعلم.