الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الإنسان يعذر إذا ارتكب محظوراً وهو جاهل بكونه محظوراً، قال الله تعالى: ... وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا {الأحزاب:5}، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أي وإنما الإثم على من تعمد الباطل. انتهى. وعن مجاهد في تفسير قوله تعالى: وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. قال: ما أتي بعد البيان. اهـ
ولكن إذا لم يؤاخذ من وقع في الذنب لجهله فإنه قد يؤاخذ ويأثم بتقصيره في طلب العلم الواجب، ومعرفة ما يحل له وما يحرم عليه، ولذا صرح كثير من الفقهاء بأنه لا يجوز لأحد أن يقدم على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه، جاء في الموسوعة الفقهية: الأصل بالنسبة للجاهل: أنه لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في الإجارة، ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله في هذه الصلاة، وهكذا في كل ما يريد الإقدام عليه، لقوله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. فلا يجوز الشروع في شيء حتى يعلم حكمه، فيكون طلب العلم واجباً في كل مسألة، وترك التعلم معصية يؤاخذ بها.
أما المؤاخذة بالنسبة للتصرف الذي وقع باطلاً مع الجهل، فقد ذكر القرافي في الفروق: أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة، فعفا عن مرتكبها، وأخذ بجهالاتٍ، فلم يعف عن مرتكبها. انتهى.
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى فيمن فعل مختلفاً في تحريمه من غير أن يقلد أحداً، قال: هو آثم من جهة أن كل أحد لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، وهذا أقدم غير عالم فهو آثم بترك التعلم، وأما تأثيمه بالفعل نفسه فإن كان مما علم في الشرع قبحه أثمناه، وإلا فلا... انتهى من البحر المحيط للزركشي الشافعي.
ويفهم من هذا أن الإنسان إذا ارتكب معصية عن جهل وقد علم من الدين بالضرورة أنها معصية فإنه يأثم بفعله وأيضاً بتركه التعلم، وأما إن كانت مما لا يعلم من الدين بالضرورة فإنه لا يأثم بفعله، ولكنه يأثم بترك التعلم.
والله أعلم.