الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالنسبة إلى قوة النبي صلى الله عليه وسلم على الجماع الكثير والحكمة من ذلك فتراجع الفتوى رقم: 7499.
وأما قولهم: إن كثر ة زوجاته يدل على النهم الجنسي عند النبي فنقول: هذا افتراء وكذب والواقع يكذبه للأسباب الآتية:
1- من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في بلاد حارة وهي بلاد العرب، والشباب والفتيان في هذه البلاد يبلغون الحلم مبكراً، وتكون عواطفهم فوارة وشهواتهم جامحة، فيبادرون إلى الزواج المبكر أو ينحرفون وراء شهواتهم المحرمة ينالون منها.
ومع نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه البلاد فقد مكث حتى الخامسة والعشرين من عمره دون زواج ولم يعرف عنه أي انحراف، بل كان يلقب بالصادق الأمين.
يقول المستشرق (موير): فإن جميع المراجع متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه كان مطبوعاً بالهدوء والدعة والابتعاد عن المعاصي التي كانت قريش تغترف منها.
2- الملاحظ أن أكثر زوجاته النبي صلى الله عليه وسلم كنّ ثيِّبات: إما مطلقات، أو ترمّلن من أزواجهن قبله صلى الله عليه وسلم . فلو كان النبي صلَّى الله عليه وسلم يهتم بأمور الجنس، لكان باستطاعته أن يتزوج خيرة النواهد الأبكار، ولسارع أولياؤهن بتزويجه ابتغاء الشرف بمصاهرته، و هو الذي حثّ على الزواج بالأبكار.
3- أن النبي صلَّى الله عليه وسلم بقي خمسا وعشرين سنة مع زوجته خديجة ، الزوجة الوفية، التي كانت تكبره سناً بخمس عشرة سنة، و لم يتزوج عليها في حياتها أحداً، مع أن تعدد الزوجات كان مألوفاً لدى الناس آنئذٍ.
4- رفض النبي صلَّى الله عليه وسلم عرض قريش عليه التزويج بأي النساء شاء، في مقابل أن يداهن في مواقفه، و يخفف من حدة المواجهته لآلهتهم وعقائدهم فلو كان رجلا جنسيا لرضي بهذا العرض.
5- إن جميع زوجاته باستثناء خديجة، إنما تزوج بهن بعد هجرته للمدينة، أي بعد تجاوزه سنّ الخمسين، و البعض تزوجهن قبل وفاته بمدة قصيرة، أفيعقل أن يكون النبي – كما يزعم هؤلاء المفترون – رجلا جنسيا ويقضي أكثر عمره بين عزوبة ثم زواج من امرأة طاعنة في السن يظل معها خمسة وعشرين سنة وصدق الله: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {الحـج46}
إن هذا التعدد لم يشغل النبي صلَّى الله عليه وسلم عن واجباته والتزاماته، و لا طغى على وقته ونشاطه، وحياته صلَى الله عليه وسلم ودعوته وجهاده وتضحياته وغزواته أكبر دليل وشاهد على ذلك.
أما أمر التعدد فله حكم كثيرة عمي عنها هؤلاء منها:
أولا: تخريج بعض معلمات للنساء يعلمونهن الأحكام الشرعية، فالنساء نصف المجتمع، وقد فرض عليهن من التكاليف ما فرض على الرجال. وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأمور الشرعية خاصة تلك المتعلقة بهن كأحكام الحيض والنفاس والجنابة والأمور الزوجية وغيرها من الأحكام، ولا تقوى امرأة واحدة ولا امرأتان على تعليم نساء المجتمع كله فلا بد من التعدد.
ثانيا: أن النبي إنما فعل التعدد لمصالح شرعية أو إنسانية، فتارة كان يتزوج ليتألف قبائل العرب حتى يدخلوا الإسلام وزواجه بـ " جويرية " خير مثال لذلك ، حيث قد نشأ عنه أن أطْلِقَ المسلمون الأسرى من قبيلتها إكراما لرسول الله ، فأسلم من قومها خلق كثير .
ومما يؤكد هذا أن زوجات النبي صلَّى الله عليه وسلم كنّ من قبائل شتى، لا تكاد تجد منهم اثنتين من قبيلة واحدة.
وتارة كان يفعل ذلك لأسباب إنسانية مثل زواجه بالسيدة حفصة التي ترملت باستشهاد زوجها، وكذلك أم سلمة , وكذلك زواجه بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش بأُحُد , وكذا زواجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان التي كان أبوها في ذلك الوقت أعدى أعداء الإسلام , وهاجرت هي إلى الحبشة فابتليت بمصيبة عظيمة وهي تنصر زوجها عبيد الله بن جحش , فكان زواجه صلى الله عليه وسلم منها تسلية لها في هذه المحن.
وتارة كان يتزوج لغرض تشريعي مثل زواجه بالسيدة زينب بنت جحش، حيث إنه صلَّى الله عليه وسلم كان قد تبنى زوجها زيد بن حارثة، وكان العرب يعتقدون أن آثار التبني هي نفس آثار البنوّة الحقيقية، فكان زواج النبي من زوجة ابنه بالتبني بعد أن طلقها زيد هو الوسيلة الحاسمة لنزع هذا المفهوم الخاطئ من أذهانهم .
وأما قولهم: إن النبي كان يجامع زوجاته وهن حيّض: فهذا محض الكذب والافتراء والزور والبهتان ففي البخاري عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يباشرها أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها . قالت وأيكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يملك إربه.
فكيف يأمرها أن تتزر إذا كان يريد الجماع, وإنما كان يباشرها دون الجماع، وهذا من الأخلاق العلية والصفات المرضية؛ لأنه كان يراعي جانبا نفسيا في المرأة وقت المحيض حيث تكون في حالة عصبية غير مستقرة, وتعتقد أن الرجل يزهد فيها في هذه الفترة، فهو بهذا يواسيها في ظروفها.
وأيضا فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يعلم الرجال من بعده أنه لا مانع من مباشرة المرأة –حال حيضها - دون جماع , وأن المقصود بالاعتزال في قوله سبحانه: فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي المحيض{البقرة: 222 } إنما هو الاعتزال في الجماع فقط, لا كما كان يفعله اليهود كما جاء في صحيح مسلم: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي المحيض {البقرة: 222 } فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح.
أليست هذه منقبة من مناقبه وفضيلة من فضائله, وأمارة على تواضعه ومراعاته لمشاعر الناس خصوصا الضعفاء كالمرأة, أفينقلب عند هؤلاء السفهاء المدح ذما, والإحسان شينا وعيبا.
وأما حديث إرضاع الكبير فمن العلماء من قال هو رخصة لسالم وحده, ومنهم من قال بل كان لها ولمن في مثل حالها، ثم حدث النسخ فقد كان هذا التشريع يمثل مرحلة من مراحل تحريم التبني؛ لأن المتبنى كان في حكم الابن، وكان من الصعب على الناس أن يمنعوه جملة واحدة بعد أن كان يؤاكلهم ويشاربهم ويخالطهم كأحد أبنائهم , فكانت هذه مرحلة من مراحل التحريم كما كان الحال في تحريم الخمر .
ولا يمكن تكرر مثل هذا؛ لأن الإسلام ألغى التبني وأبطله من الأساس .
ولم يكن الرضاع في حالة سالم بالامتصاص مباشرة من ثدي المرأة، بل كان اللبن يحلب له في إناء ثم يشربه.
وأما أخذ عائشة برضاع الكبير فاجتهاد منها رضي الله عنها خالفها فيه جمهور الصحابة بل وسائر أزواج النبي, ولا شك أن رأيها مرجوح في هذه المسألة ونحن لا ندعي لها العصمة ولكنها إن شاء الله مأجورة فمن كان من أهل الاجتهاد واجتهد فأخطأ فله أجر.
وقد حكى غير واحد من العلماء رجوع السيدة عائشة عن هذا الرأي استنادا لما أخرج البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها :أن النبي دخل عليها وعندها رجل فكأنما قد تغير وجهه، فقالت إنه أخي فقال: انظرن ما إخوانكن إنما الرضاعة من المجاعة. أي في السن الذي يكون سد الجوع فيه باللبن الذي يرضعه الرضيع.
وللمزيد تراجع الفتوى رقم: 99347.
والله أعلم.