الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالراجحُ من أقوال العلماء وجوب الجماعة على الأعيان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى في تركها، وهمَّ بتحريقِ بيوت المتخلفين عنها، وكل ذلك روي في الصحيح، واختلف الموجبون للجماعة هل تجب في المسجد أو لا ؟، والذي لا شك فيه أن الصلاةَ في المسجد لها فضلٌ عظيم، وقد تكاثرت الأحاديث الدالة على فضيلة المشي إلى المساجد وعمارتها وانتظار الصلاة فيها، وحسبك قول النبي صلى الله عليه وسلم في السبعةِ الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد. متفقٌ عليه. ومع هذا فأكثرُ العلماء الموجبين للجماعة لا يوجبونها في المسجد، لعمومِ قوله صلى الله عليه وسلم: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا. متفق عليه.
قال ابن قدامةَ في المغني: ويجوز فعلها في البيت والصحراء، وقيل: فيه رواية أخرى: أن حضور المسجد واجب إذا كان قريبا منه؛ لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: جعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان. متفق عليه. وقالت عائشة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وهو شاك فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا. رواه البخاري. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين: إذا صليتما في رحالكما، ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم، تكن لكما نافلة. وقوله: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد لا نعرفه إلا من قول علي نفسه، كذلك رواه سعيد في سننه، والظاهر أنه إنما أراد الجماعة، وعبر بالمسجد عن الجماعة لأنه محلها، ومعناه: لا صلاة لجار المسجد إلا مع الجماعة. وقيل: أراد به الكمال والفضيلة، فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة في غير المسجد صحيحة جائزة. انتهى.
فالذي ننصحك به أن تحرصَ على الجماعة في المسجد ما أمكنك، فإن تعذر ذلك لأجل العمل، وكنت تُمنع من إتيان المسجد، فاحرص على صلاةِ الجماعة مع بعض زملائك في العمل، وتكون قد أديت الواجب، ولا يلزمك أن تحتال للابتعاد عن المسجد كي لا تلزمك الجماعة فيه، فإن كنت لا تستطيعُ الصلاة في جماعةٍ أصلاً فلا يجوزُ لك البقاء في هذا العمل إلا إن كنت تتضرر بتركه، وانظر الفتوى رقم: 105465، واحرص مع هذا على البحثِ عن عملٍ أنسب لا تمتنعُ بسببه من إتيان المسجد.
والله أعلم.