الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا مانع شرعا أن يعطي الرجل لزوجته أو لأولاده أو لغيرهم من الأقارب أو الأجانب ماله كله أو بعضه سواء كان على سبيل الهبة أو الصدقة ما دام أهلا للتصرف، بهذه الشروط:
الأول: أن يفعل ذلك في أثناء صحته، لا في مرض موته.
الثاني: أن يسوي بين أولاده في الهبة.
الثالث: أن يرفع يده عن هذا المال، بحيث يتصرف فيه من أخذه تصرف الملاك فيما يملكون بعد قبض هذا المال وحيازته.
أما إن ظل هذا المال في يده، ولم يتمكنوا من التصرف فيه، فإنه يأخذ حكم الوصية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث. رواه الترمذي وأبو داود، ورواه الدارقطني وزاد: إلا أن يشاء الورثة.
الرابع: ألا يقصد بهذا التصرف حرمان الورثة من نصيبهم ؛ إذ التركة حقهم الذي فرضه الله سبحانه لهم، قال تعالى: لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا {النساء:7}. فإن فعل فهو ظالم لهم لأن هذا من الحيل المحرمة، جاء في عمدة القاري لبدر الدين العيني عن محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق.
الخامس: ألا يوقعه هذا التصرف في الحرام من سؤال الناس والتسخط على أقدار الله، وتضييع من تلزمه نفقتهم.
فإن تحققت هذه الشروط فلا بأس ببذل المال، أما إذا لم تتحقق كلها أو لم يتحقق واحد منها فيمنع، وبناء على ذلك فإن ما فعلته أيها السائل حرام طالما كان قصدك الإضرار بالورثة ومنعهم من الميراث.
واعلم أن الله قد نهى عن إعطاء المال للنساء والأولاد بقوله جل وعلا: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا {النساء:5}، والسفهاء هنا هم النساء والأولاد الصغار على ما فسره به غير واحد من المفسرين، وهو تأويل حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس فقد جاء في تفسير القرطبي عند هذه الآية: قال ابن عباس: لا تدفع مالك الذي هو سبب معيشتك إلى امرأتك وابنك وتبقى فقيرا تنظر إليهم وإلى ما في أيديهم، بل كن أنت الذي تنفق عليهم. فالسفهاء على هذا هم النساء والصبيان، صغار ولد الرجل وامرأته. انتهى.
وجاء في تفسير ابن كثير عند هذه الآية: عن ابن عباس يقول [تعالى] لا تَعْمَد إلى مالك وما خَوَّلك الله، وجعله معيشة، فتعطيَه امرأتك أو بَنيكَ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمْسكْ مالك وأصلحْه، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسْوتهم ومؤنتهم ورزقهم. كما أن إمساكك لمالك أدعى لقوامتك على أهل بيتك فقد قال سبحانه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ {النساء: 34}.
ولكن أما وقد حدث منك ما حدث فحاول بكل طريق أن ترجع هذا المال إلى ما كان عليه الأمر قبل ذلك فتسترد تلك الهبة من بناتك، وهذا جائز لا حرج فيه، وهو مستثنى من النهي عن الرجوع في الهبة. جاء في المغني لابن قدامة: فصل: وقول الخرقي: أمر برده . يدل على أن للأب الرجوع فيما وهب لولده. وهو ظاهر مذهب أحمد، سواء قصد برجوعه التسوية بين الأولاد أو لم يرد، وهذا مذهب مالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور. انتهى.
وليس لامرأتك ولا لغيرها منعك من تصحيح خطئك هذا ولو كانت موكلة من قبل البنات فإن لبناتك أن يقمن برد هذه الهبة بأنفسهن دون حاجة إلى التوكيل الذي مع الأم. ونسأل الله سبحانه أن يعفو عنك وأن يتجاوز عن سيئاتك، وللفائدة تراجع الفتويين: 71872، 106777.
والله أعلم.