الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
بداية ننبه السائل إلى أن المسلم يتلقى أحكام الشرع بالقبول والتسليم، واليقين بأن كلها عدل ورحمة وحكمة، قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {الأنعام:115}، وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ {هود:1}، وقال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {فصلت:2}، ورغم أن هذه الأحكام قد شرعت لحكم بليغة باهرة، إلا أننا قد ندرك تلك الحكم وقد لا ندركها، كما أن العلماء يتفاوتون في إدراك تلك الحكم، التي تزيد معرفتها الإيمان بالله والتعرف على صفاته سبحانه وتعالى، كما أن عدم معرفتها لا تنقص الإيمان ولا تمنع التسليم لهذه الأحكام، فشعار المسلم معها دائماً "سمعنا وأطعنا"، وليس من شأنه أبداً أن يقدم رأيه عليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {الحجرات:1}
أما عن أسئلتك:
1- ما ذكرته من مشكلات وأرجعت سببه إلى خروج لفظ الطلاق، فيه مبالغة كبيرة، فهناك أسباب كثيرة لهذه المشكلات غير الطلاق، كتعطيل أحكام الشرع، وتبرج النساء، وفساد كثير من مواد الإعلام، وانتشار البطالة... وغير ذلك.
2- أ- ليس من شرط الطلاق وجود الحكمين، وإنما يبعث الحكمان عند خوف الشقاق، وليس كل طلاق يكون بسبب النزاع بين الزوجين، ولكن قد يكون لعيب في أحدهما، أما عن وقوع الطلاق مع النسيان -على خلاف في وقوعه-أو مازحا أو غاضبا فقد تقدم الكلام فيه في الفتوى رقم: 14603، والفتوى رقم: 12827، والفتوى رقم: 22349، والفتوى رقم: 1496.
ب- المقصود بقوله تعالى: "فطلقوهن لعدتهن" أن طلاق المرأة يجب أن يكون في طهر لم يجامعها فيه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله وسلم صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مره فليرجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء. رواه البخاري في صحيحه.
ج- إذا ادعت الزوجة أن زوجها طلقها ثلاثاً (ولا بينة لها) وأنكر الزوج، فالقول قول الزوج، وذلك لأن الطلاق إلى الزوج، وقول الزوجة يحتمل أن تكون قد وهمت أو سمعت خطأ، والقاعدة الفقهية تنص على أن: اليقين لا يزول بالشك، فالنكاح ثابت بيقين فلا يزول بشك الطلاق، أما إذا كانت المرأة متيقنة من الطلاق، فحينئذ حتى لو حكمنا في الظاهر بعدم وقوعه، فإنه لا يجوز لها البقاء معه، ففي مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية صالح: وسألته عن امرأة أدعت أن زوجها طلقها وليس لها بينة وزوجها ينكر ذلك قال أبي: القول قول الزوج إلا أن تكون لا تشك في طلاقه قد سمعته طلقها ثلاثا فإنه لا يسعها المقام معه وتهرب منه وتفتدي بمالها.
د- مسألة توثيق الطلاق من المصالح المرسلة التي ينبغي عدم التهاون بها حفظاً للحقوق.
هـ- الزواج يترتب عليه حقوق والتزامات، ولذلك جعل الشرع له شروطاً، أما الطلاق فلا يترتب عليه مثل ذلك، وإنما هو حل لقيد النكاح، فلا حاجة لهذه الشروط.
و- الطلاق حق للزوج فهو الذي يوقع الطلاق، أما الزوجة فليس لها ذلك، وغاية ما لها إذا رأت من نفسها عدم القدرة على القيام بحقوق الزوج أو كانت متضررة بالبقاء معه أن تطلب من الزوج الطلاق أو تبذل له مال ليطلقها وهو ما يعرف بالخلع، وقد تقدم الكلام على أحكامه في الفتوى رقم: 3875، والفتوى رقم: 13702.
وبهذا تعلم أن الخلع حكم من الأحكام الشرعية وليس فيه تشهير بالزوج.
3- الأحكام الشرعية لا تحتاج إلى تحديث وإنما هي صالحة لكل زمان، فالمحافظة على كيان الأسرة يكون بالالتزام بأحكام الشرع لا بتحديثها أو الخروج عنها.
5- سبق الكلام على طلاق المازح والناسي والغضبان، ولكن ننبهك إلى أن عبارة: الإسلام يحرص على هدم كيان الأسرة، في غاية الخطورة على دين قائلها، ولا ينبغي لمسلم أن ينطق بها، فالإسلام دين الله فكيف ينسب إلى الله ذلك؟
6- المسيحية في بعض مذاهبها تحرم الطلاق إلا في حالة الخيانة، وبعضها يحرم الطلاق تماماً، فهل ترى في ذلك حفاظاً على كيان الأسرة؟ أم أن ذلك من الحرج والكبت والعنت؟ الحق أن الحفاظ على كيان الأسرة لا يكون إلا بما شرعه الإسلام، فتشريع الطلاق في الإسلام من الأحكام التي يظهر فيها للمنصف أن ذلك لا يكون إلا من تشريع الحكيم الخبير... فقد حرم الإسلام على الزوج أن يطلق زوجته حال حيضها أو طهرها الذي جامعها فيه، وذلك غالب أحوال الزوجة، فإذا أراد الزوج الطلاق فإن كان ذلك لعارض من غضب أو نحوه، فإن انتظاره حتى تكون زوجته في الحال التي يجوز فيها الطلاق، كفيل بأن يعيده إلى صوابه، ثم إن حدث وطلق، فإن وجود زوجته معه في بيته فترة العدة، كفيل بأن يحمل الزوج أن يراجع نفسه مرراً، فإن أصر على الطلاق حتى انتهت العدة فلا شك أن هذا القرار لم يكن وليد انفعال، وإنما هو نتيجة استحالة العشرة بينهما، ولا شك أن المقارنة بين نظام الطلاق في الإسلام وغيره، مقارنة خاطئة، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {المائدة:50}، نسأل الله لنا ولك الهداية والرشاد.
والله أعلم.