الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن أباك -عفا الله عنه- قد أساء عندما ترك زوجته وأولاده بلا نفقة وتغيب عنهم هذه الغيبة الطويلة بلا سبب، وتركهم هكذا يعانون الحسرات ويكابدون الهموم والأحزان، وكيف يصنع هذا الوالد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت. رواه أبو داود وغيره وحسنه الألباني.
وإذا كان الظلم أمراً قبيحاً وفعلاً شنيعاً فإنه من الوالد لولده أقبح وأشنع، ومن الزوج لزوجته أشق وأفظع، وإن هذا الوالد بفعله قد ضيع زوجته وولده الذين أمره الله بحفظهم ورعايتهم، وضيع وصية الله فيهم، فقد قال سبحانه: يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ {النساء:11}، وخان الأمانة التي حمله الله إياها لأن الأبناء أمانة في أعناقهم وهم مسؤولون عن هذه الأمانة أمام الله سبحانه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم... الحديث رواه البخاري ومسلم.
وقد حذرنا نبينا من تضييع هذه الأمانة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة. رواه البخاري ومسلم.
ولكن مع هذا كله فلا يجوز لكم -أيها الأبناء- أن تقطعوا أباكم، وإذا كان الوالد قد عصى الله فيكم فأطيعوا أنتم الله فيه، فقد وصى الله الأبناء بآبائهم حتى ولو كانوا مشركين يدعوان ولدهما إلى الشرك بالله، قال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان:14-15}، ومهما يكن من أمر فإن وجود والدكم على قيد الحياة نعمة تستوجب الشكر وفرصة تغتنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه. رواه الترمذي، وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم: رغم أنف رجل بلغ والده عنده الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقد أمر الله بالإحسان إليه لا سيما وقت الكبر، بقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {الإسراء:23-24}، وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: من أبر؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب. حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
فصلوا أباكم ما حييتم وأحسنوا إليه ما استطعتم، وقابلوا إساءته بالإحسان وحرمانه بالعطاء، وأذاه بالعفو والصفح فهذا مما يرفع الله به الدرجات ويمحو به الخطيئات..
أما بخصوص ما تسألين عنه من البحث عنه فنقول نعم البحث عنه بالقدر المعتاد الذي لا يعنتك ولا يلحق بك الحرج من البر به والصلة له، وبر الوالد وصلته أمر واجب لا يسقطه تفريطه أو تقصيره في حق الولد.
وللمزيد من الفائدة تراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 93579، 4296، 10436.
والله أعلم.