الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله العظيم أن يتم عليك نعمته، ويعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، ثم لا شك أن دين المؤمن وآخرته آثر عنده من الدنيا، فإذا تعارضت الدنيا مع الآخرة على وجه لا يمكن الجمع بينهما، فإنه لا يتردد في تقديم ما ينفعه في دينه ويرفعه في آخرته، وإن ترتب على ذلك نقص في دنياه وضيق في معيشته؛ فإن الآخرة خير وأبقى، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، فهذه مقدمة ينبغي أن نتوفر على تقريرها وتحقيقها.
ولا شك أن السائل الكريم تحوم نفسه حول هذا المعنى، فهو يبحث ويسأل عما هو خير له عند ربه ليلتزمه، وهذه علامة خير بلا ريب، ويبقى النظر بعد ذلك في تحديد ما هو الأفضل.
ولابد من ملاحظة أن الدنيا دار ابتلاء ومحنة، وامتحان وفتنة، وإنما خلقها الله تعالى لتكون كذلك، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {الملك:2}.
ومن صور هذا الابتلاء أن يُزين في النفس حب الشهوات، ثم يؤمر العبد فيها بحد لا يتعداه، ومن ذلك الأمر بغض البصر، والزجر عن الاختلاط المحرم بين الرجال والنساء، فهذا في الحقيقة امتحان ليعلم الله من يخافه بالغيب، فيؤثر ما يحبه الله ويرضاه على مراده وهواه.
وعلى ذلك فإن تعارضت ـ أخي السائل ـ دراستك وعملك بمهنة الطب من كل وجه، مع امتثالك لأحكام الشريعة وحفظك لحدود الدين، ولم يمكن الجمع بينهما بحال، فلتؤثر دينك على دنياك.
وقد سبق لنا الكلام على مسألة الكشف على النساء والاختلاط بهن، والأصل في ذلك ـ كما تعلم ـ المنع والحظر، ولا يحل من ذلك ـ سواء من ناحية الطبيب أو المريضة ـ إلا ما تبيحه الحاجة الملحة والضرورة المعتبرة، بالضوابط التي أشرت إليها في سؤالك، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها : 2523، 8107، 5310.
ولكن الذي نراه أن الجمع بين الاستقامة وبين إكمال الدراسة أمر ممكن بإذن الله، فينبغي للأخ السائل أن يجتهد ويبذل كل ما في وسعه ليجمع بين مصلحة حفظ دينه ، ومصلحة إكمال دراسته، بقدر طاقته، فإن ذلك أيضا من القربات، وهذا بحمد الله موجود، فقد رأينا من الأطباء من يتصف بالتقوى والورع، فتجده يحفظ نفسه ويغض بصره، ويبذل وسعه في النوافل بعد الفرائض، ويشارك باجتهاد في الدعوة إلى الله، وله فيها دور بارز.
ولا يخفى أن الحاجة إلى غض البصر لا تقتصر على الأطباء، وإن كانوا إليها أحوج، فليس معنى ترك تعلم الطب وامتهانه أن الفتنة قد زالت.
ولا يخفى أيضا أن مهنة الطب من أهم ما يخدم به المسلم دينه، ومن أنجح وسائل الدعوة والتأثير؛ ولذلك استغلها دعاة التنصير والباطل، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 57735، هذا مع ما يمكن أن يحتسبه الطبيب المسلم في مهنته من إغاثة الملهوف وإحياء النفوس، فهذه مصالح ينبغي أن تعتبر، فتحمل السائل الكريم على بذل الاجتهاد في حفظ نفسه وأداء ما يريده من أنواع العبادات الأخرى، مع إكمال دراسته.
ويجب أن ينتبه السائل الكريم إلى أن شكواه من ضعف الإيمان وسفول الهمة في الطاعات، ينبغي ألا يعلقها على مسألة النظر والاختلاط فحسب، فقد تكون هناك مخالفة أخرى هي أولى بتعليق الجناية بها، كالتقصير في حقوق الناس لا سيما الوالدين مثلا. فلا بد من التفتيش في النفس، والحال مع الله ومع الناس، فلعلك أن تجد آفة خفية أو حقا مضيعا، فتصلح ذلك منك، فيعود أثره عليك.
والأمر ـ أخي الكريم ـ يحتاج إلى جهد جهيد حفظا للدين وتحقيقا للمصلحة، واعلم ـ بارك الله فيك ـ أن ما تشكو منه من الفتن التي تحيط بك، يمكن أن تكون من أعظم أسباب رفعتك في الدنيا والآخرة، وذلك بتقواك لله ومراقبته وحفظ حدوده، فكراهة قلبك للمحرمات واجتناب جوارحك لها، مما يرفعك في الآخرة، وينفعك في الدنيا ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين؛ على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه. رواه مسلم، ولذلك فإن تخوف السائل من ضعف إنكار المنكرات في قلبه مع كثرة الاحتكاك ، يمكن معالجته بملازمة وسائل التذكير بالله وحقوقه وحدوده، واكتساب الحسنة تلو الحسنة، واجتناب السيئة تلو السيئة، فإن ذلك ينور القلب ويشرح الصدر وييسر الأمر.
ونوصيك أخي الكريم بتقوى الله والاستقامة على طاعته، وجهاد نفسك في ذات الله، والصبر والمصابرة والمرابطة، ولترتب لنفسك جدولا من الطاعات التي تتناسب مع ظروفك وإمكاناتك، يكون فيها نصيب وفير للقرآن الكريم تلاوةً وحفظا وفهما، وللعلم النافع التي تزكو به النفس، والعمل الصالح الذي ينشرح به الصدر. وعليك بالإلحاح في الدعاء وكثرة الاستغفار وملازمة الأذكار.
ولتحتسب في دراستك ومذاكرتك أن تنفع بذلك أمتك، وتقر أعين والديك، وتدعو إلى الله بسلوكك ولسانك. لا سيما ولم يبق لك إلا سنة واحدة، وتجتهد بعد التخرج في أن تتخصص في المجالات الأبعد عن كشف العورات كالرمد والأطفال.
ولتنتبه أخي الكريم أنه لا يجوز للمسلمين عموما أن يعزفوا عن مهنة الطب لهذه المخالفات التي ذكرتها، بل عليهم أن يتقوا الله ما استطاعوا ويسددوا ويقاربوا. وراجع الفتوى رقم: 46349 ، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة. متفق عليه.
وفقك الله لما يحب ويرضى.
والله أعلم.