الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالآية 42 من سورة الأنفال هي قول الله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ {الأنفال: 42}. وهذه الآية عن يوم الفرقان يوم بدر، يوم أعز الله به الإسلام وأهله، وأذل به الكفر وأهله، وقال النسفي في تفسيرها: اذكروا إذ أنتم "بالعدوة" شط الوادي.. "الدنيا" القربى إلى جهة المدينة.."وهم بالعدوة القصوى" البعدى عن جهة المدينة.. "والركب" أي العير، وهو جمع راكب في المعنى "أسفل منكم" .. يعني في أسفل الوادي بثلاثة أميال.."ولو تواعدتم" أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال "لاختلفتم في الميعاد" لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له "ولكن" جمع بينكم بلا ميعاد "ليقضي الله أمراً كان مفعولاً" من إعزاز دينه وإعلاء كلمته، أو اللام تتعلق بمحذوف، أي: ليقضي الله أمراً كان ينبغي أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه، دبر ذلك.. "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة".. استعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أي: ليصدر كفر من كفر عن وضوح بدينه لا عن مخالجة شبهة، حتى لا يبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم -أيضاً- عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به.
وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم، مع أنهم قد علموا ذلك كله مشاهدة ليعلم الخلق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب، بل بالله تعالى، وذلك أن العدوة والقصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار، تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكان العير وراء ظهور العدو، مع كثرة عددهم وعدتهم، وقلة المسلمين وضعفهم، ثم كان ما كان "وإن الله لسميع" لأقوالهم "عليم" بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
والله أعلم.