الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمما لا إشكال فيه أن الدال على الخير والداعي إليه له مثل أجر فاعله، كما سبق بيانه في الفتويين: 60180، 28202لأنه باشر السبب وقصد حصول نتيجته، ويبقى النظر في من تسبب في وجود خير ما، كعمل صالح أو توبة عاص، دون قصد منه للنتيجة، غير أنه باشر السبب اتفاقا بغير نية ولا احتساب لأجر معين. ومن أمثلة ذلك أن يعمل رجل عملا صالحا فيراه غيره فيقتدي به، دون نصيحة منه أو حتى دون أن يعلم أنه رآه، فإن الرجل قد يعمل العمل الصالح ويُقتدى به فيه ويترتب عليه أنواع من الخيرات وهو لا يدري، فهذا إن شاء الله يكتب له الأجر؛ لأن ذلك أثر من آثاره، كما قال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ {يس: 12}.
قال السعدي: { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، { وَآثَارَهُمْ } وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر. ولهذا: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وهذا الموضع يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك. اهـ.
ومما يدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء.رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله
فقد كان سبب ذلك أن ناسا من الأعراب جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه حتى رئي ذلك في وجهه، ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فذكر الحديث.
ولا يخفى أن ذلك الرجل الذي ابتدأ الصدقة ونال ثواب من اقتدى به، لم يكن بالضرورة يحتسب أجر الدلالة على الخير.
ومن ذلك قول ابن حجر في حق السيدة خديجة رضي الله عنها: وَمِمَّا اِخْتَصَّتْ بِهِ سَبْقهَا نِسَاء هَذِهِ الْأُمَّة إِلَى الْإِيمَان, فَسَنَّتْ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ آمَنَتْ بَعْدهَا, فَيَكُون لَهَا مِثْل أَجْرهنَّ, لِمَا ثَبَتَ أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسَنَة، وَقَدْ شَارَكَهَا فِي ذَلِكَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَال, وَلَا يُعْرَف قَدْر مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الثَّوَاب بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. اهـ.
ويظهر هذا أيضا بالقياس العكسي، فكما أن من تسبب في الحرام وقع عليه شيء من وزره، فكذلك من تسبب في الطاعات والحسنات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا. رواه مسلم.
والله أعلم.