الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيك ويعافيك، ويفرج عنك الكرب ويصرف عنك الهم والحزن، ونسأله سبحانه أن يصلح ذات بينكم.. ويدفع عنكم كيد الشيطان وهمزاته، واعلمي أيتها السائلة أن الله سبحانه قد فتح لك باباً عظيماً من أبواب العبودية والطاعة عندما ابتلاك بما أنت فيه من بغض إخوتك وعداوتهم لك، فقد قال سبحانه: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا {الفرقان:20}، فعليك أيتها السائلة بالصبر، ثم بشكر الله سبحانه الذي من عليك ووفقك لصلة أرحامك، وعافاك مما ابتلى به أخواتك من القطيعة والبغي، فقطيعة الرحم من الكبائر المهلكة، والمعاصي الموبقة، فقد جاء في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يارب قال: فهو لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقرؤوا إن شئتم: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم.
وليس المراد بالصلة أن يصل الإنسان أرحامه إذا وصلوه فهذه مكافأة، بل المراد أن يصلهم وإن قطعوه، ويحسن إليهم وإن اساءوا، ويعطيهم وإن منعوا، فتلك هي الصلة التي أمر الله بها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها. وفي صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل. ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.
أما إخوتك هؤلاء سامحهم الله فقد خالفوا أمر ربهم، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأجابوا داعي الشيطان في تحريشه بين المصلين، ثم ما تقوم به أختك من النميمة والإفساد بينك وبين إخوتك كبيرة أخرى فوق معصية القطيعة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: لا يدخل الجنة قتات. أي نمام، جاء في التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي: ولذلك قالوا النميمة من الخصال الذميمة تدل على نفس سقيمة وطبيعة لئيمة، مشغوفة بهتك الاستار وكشف الأسرار، وقال بعض الحكماء: الأشرار يتبعون مساوئ الناس ويتركون محاسنهم كما يتبع الذباب المواضع الوجعة من الجسد ويترك الصحيحة، وقالوا الساعي بالنميمة كشاهد الزور يهتك نفسه ومن سعى به ومن سعى إليه، ورأى بعضهم رجلاً يسعى بآخر عند رجل فقال له: نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن النطق به، فإن السامع شريك المتكلم. انتهى.
وقد أخطأ أخوك وسائر إخوتك حينما أنصتوا إليها في إثمها، وكان الأحرى بهم أن يأخذوا على يديها وأن ينصحوا لها، ويخوفوها مغبة البغي، فإن النميمة والغيبة كما يحرم فعلها يحرم أيضاً الاستماع إليها، ومجالسها من مجالس الزور واللغو التي مدح الله المؤمنين بتركها والإعراض عنها، قال سبحانه: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا {الفرقان:72}.
ولكن نوصيك مع كل هذا بالصبر، فإن أيام الدنيا قلائل، وسيرجع الجميع إلى ربه ليجازى بعمله، وتذكري ما كان من نبي الله يوسف عليه السلام حينما آذاه إخوته، وهموا بقتله وألقوه وحيداً في ظلمات الجب، وفرقوا بينه وبين أبيه حتى ذهبت عين أبيه بكاء وحزنا على فراقه، وتسببوا له مع ذلك في أنواع البلايا من الرق والسجن وغير ذلك، فلما صبر على كيدهم وتغاضى عن زلاتهم وأحقادهم آل أمره إلى التمكين والرفعة في الدنيا والدين، وآل آمرهم إلى الفقر والمسكنة حتى ذهبوا إليه يمدون إليه أيديهم بالسؤال يقولون: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ {يوسف:88}، ولم يكن منه صلوات الله وسلامه عليه إلا العفو والصفح والخلق الجميل، والتغاضي عما كان منهم فلم يعاتبهم بها مجرد عتاب، وإنما قال: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {يوسف:92}.
ولكن إن ضاق الأمر بك وخفت على نفسك الضرر والأذى في دينك أو دنياك من جراء معاملتهم لك فلا مانع حينئذ من هجرهم والإعراض عنهم، فقد تقرر في الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار، قال ابن عبد البر رحمه الله: أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية. انتهى.
أما بخصوص الزواج، فإنك قد أحسنت عندما أقدمت على الزواج، وهذا ليس فيه ظلم لابنك البتة، ولو كان يعيش بعيداً عنك، ما دمت تقومين بصلته حسب وسعك وطاقتك.. ونسأل الله تعالى أن يعافيك، وأن يشرح صدرك، وييسر أمرك، وراجعي في ذلك الفتوى رقم: 115496.
والله أعلم.