شرح حديث: فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته...

17-2-2009 | إسلام ويب

السؤال:
أرجو شرح هذا الحديث "... فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا..."؟

الإجابــة:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فمعنى هذا الحديث أن الله تعالى يأتي عباده المؤمنين يوم القيامة فيتجلى في صورة غير الصورة التي رأوه فيها سابقاً ابتلاء لهم فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون. وهذا يعني أنهم لا يتحركون من أرض المحشر ولا يتبعون معبوداً غير الله تعالى، فبعد ذلك يأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون فيقرون ويقولون: أنت ربنا... هذا وليعلم أن أحاديث الصفات يجب الإيمان بما دلت عليه من غير تكييف مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن الشبه بالمخلوق، فقاعدة السلف في صفات الله تعالى هي إمرارها كما جاءت بلا كيف كما قال شيخ الإسلام في كتاب (العقيدة الواسطية): ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. انتهى.

وقال الترمذي في سننه بعد تخريج رواية من روايات هذا الحديث: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربهم وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: تروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يقال كيف. وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال كيف. وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه. ومعنى قوله في الحديث فيعرفهم نفسه يعني يتجلى لهم، وقال أيضاً في كتاب الزكاة بعد روايته لحديث: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه... قال رحمه الله: وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف. هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا: هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد ههنا القوة، وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد أو مثل يد أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر ولا يقول كيف ولا يقول مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهاً وهو كما قال الله تعالى في كتابه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. انتهى.

وروى ابن بطة في الإبانة: عن حنبل بن إسحاق قال: قلت لأبي عبد الله: ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم، قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ قال: فقال لي: اسكت عن هذا، وغضب غضباً شديداً، قال ابن بطة: وقال مالك: ولهذا امض الحديث كما روي بلا كيف. انتهى. وروى اللالكائي عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية -يعني رؤية الله يوم القيامة- فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. انتهى. 

وروى الدارقطني في الصفات عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا والثوري والأوزاعي والليث بن سعد عن الأخبار في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت، وأخرجه أيضاً الآجري في الشريعة وابن عبد البر في التمهيد، وجاء في روايته: أمروها كما جاءت بلا كيف. وروى أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه، ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج. انتهى.

وقال المباركفوري في شرح سنن الترمذي: قوله (وأمروها بلا كيف) بصيغة الأمر من الإمرار أي أجروها على ظاهرها ولا تعرضوا لها بتأويل ولا تحريف بل فوضوا الكيف إلى الله سبحانه وتعالى... وقد صنف الحافظ الذهبي في هذا الباب كتاباً سماه كتاب العلو للعلي الغفار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها وهو كتاب مفيد نفيس نافع جداً ذكر في أوله عدة من آيات الاستواء والعلو ثم قال: فإن أحببت يا عبد الله الإنصاف فقف مع نصوص القرآن والسنة ثم انظر ما قاله الصحابة والتابعون وأئمة التفسير في هذه الآيات وما حكوه من مذاهب السلف.. إلى أن قال: فإننا على اعتقاد صحيح وعقد متين من أن الله تعالى تقدس اسمه لا مثل له وأن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة إذ الصفات تابعة للموصوف فنعقل وجود الباري ونميز ذاته المقدسة عن الأشباه من غير أن نعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته نؤمن بها ونتعقل وجودها ونعلمها في الجملة من غير أن نتعقلها أو نكيفها أو نمثلها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فالاستواء -كما قال مالك الإمام وجماعة- معلوم والكيف مجهول. ثم ذكر الذهبي الأحاديث الواردة في العلو واستوعبها مع بيان صحتها وسقمها ثم ذكر بعد سرد الأحاديث أقوال كثير من الأئمة وحاصل الأقوال كلها وهو ما قال إن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بذاته المقدسة إلخ، ونقل عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاءت بلا تفسير وإن شئت تفاصيل تلك الأقوال فارجع إلى كتاب العلو. انتهى.

وقد تكلم الشيخ عبد الله الغنيمان في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري على بيان معاني هذا الحديث وتحقيق الحق في شأنه فقال: قوله (فيأتيهم الله) هذا من أوصاف الله وأفعاله التي يفعلها إذا شاء، وهي ما يجب الإيمان به على ظاهر النص، كما هي طريقة سلف هذه الأمة الذين تلقوا ذلك عن الله ورسوله بالقبول والتسليم، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير على الله وأعظم تعظيماً له، وأعلم به وبما يجب له، وما يمتنع عليه، من أهل التأويل الذي يزعمون أنهم ينزهون الله عن أوصاف المحدثين -كما يقولون- ولهذا تجدهم يجهدون أنفسهم في تحريف كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم زاعمين أنه لو أجري على ظاهره لأفاد التشبيه والتجسيم، فلذلك جعلوا تأويله واجباً، والواقع أن ما يسمونه من ذلك تأويلاً هو تحريف وإلحاد... وفي هذه الجملة من الحديث، وهي قوله (فيأتيهم الله، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه) شاهد للباب، لأن ظاهره أنهم يرونه غير أنهم في هذه المرة لم يعرفوه، لأنه تعالى لم يظهر لهم بأوصافه التي يعرفونه بها، وقد جاء في رواية أبي سعيد الآتية: (فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة) ولهذا قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه...

ثم ذكر الشيخ الغنيمان بعد ذلك كلام أهل العلم والتحقيق في المسألة فنقل عن شيخ الإسلام أنه قال: لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات، التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله اختصت به، مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه، واستوائه على العرش ونحو ذلك... ونقل عنه أنه قال أيضاً: وكما أنه لا بد لكل موجود من صفات تقوم به، فلا بد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها. ونقل عن ابن قتيبة قوله: الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه، لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد. انتهى.. ونحسب أن هذا القدر كاف لما أردته من شرح ذلك الجزء من الحديث.

والله أعلم.

www.islamweb.net