الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإذا أنعم الله على عبده فلم يُر أثرها عليه؛ فإنه يذم إن كان ذلك بخلاً وشحاً على نفسه أو كتمانا لنعمة الله، أما إن وقع منه ذلك على سبيل التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها والتفرغ للآخرة، والبعد عن الترف والتنعم، فإن هذا يمدح ولا يذم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعث به إلى اليمن: إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين. رواه أحمد وحسنه الألباني.
وذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما عنده الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني. وصححه الألباني، قال الخطابي: البذاذة سوء الهيئة والتجوز في الثياب. وقال ابن حجر: البذاذة رثاثة الهيئة. وقال ابن رجب في اختيار الأولى: في سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: البذاذة من الإيمان. يعني: التقشف. وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك اللباس تواضعاً لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها. وإنما يذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلاً على نفسه، أو كتماناً لنعمة الله عز وجل، وفي هذا جاء الحديث المشهور: إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده. انتهى.
ومن العلماء من جمع بين الأمرين بأن المطلوب التوسط في الأمور، فقد ذكر الطحاوي في (مشكل الآثار) باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفيع اللباس وفي خسيسه، وأسند ما فيه من الآثار السابقة ثم قال: البذاذة التي لا تبلغ بصاحبها نهاية البذاذة التي يعود بها إلى ما يبين به ذو النعمة من غير ذي النعمة، وحديثا عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين على النعمة التي ترى على صاحبها ليس مما فيه الخيلاء ولا السرف ولا اللباس المذموم من لابسه، ويكون اللباس المحمود هو ما فوق البذاذة التي لا بذاذة أقل منها.. وما في الحديثين الآخرين على اللباس الذي لا يدخل به صاحبه في أعلى اللباس، فيكون فاعل ذلك يدخل في معنى قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا. ومثل ذلك ما قد كان أهل العلم عليه، وما يأمرون به الناس في اللباس كما قال سفيان الثوري: البس من الثياب ما لا يشهرك عند الفقهاء ولا يزري به السفهاء. انتهى.
ومنهم من جعل التواضع في اللباس مطلوباً في وقت الشدة والحاجة حتى لا تنكسر قلوب الفقراء، أو في بعض الأوقات دون بعض حتى لا تكون العادة هي التكلف في الثياب ونحوها، ففي مرقاة المفاتيح: إنما حث على البذاذة لئلا يعدل عنها عند الحاجة ولا يتكلف للثياب المتكلفة، كما هو مشاهد في عادة الناس. انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين في فتاوى (نور على الدرب) نحو سؤال السائل الكريم فكان مما أجاب: أثر النعمة بحسب النعمة، فنعمة المال أثرها أن يكثر الإنسان من التصدق ومن نفع الخلق، وكذلك أن يلبس ما يليق به من الثياب، حتى أن بعض العلماء قال: إن الرجل الغني إذا لبس لباس الفقراء فإنه يعد من لباس الشهرة، ولكن قد تدعو الحاجة أو قد تكون المصلحة في أن يلبس الإنسان لباس الفقراء إذا كان عائشاً في وسط فقير وأحب أن يلبس مثلهم لئلا تنكسر قلوبهم، فإنه في هذه الحال قد يثاب على هذه النية ويعطي الأجر على حسب نيته... وأما ما ذكر عن بعض الصحابة في تقشفهم فهذا على سبيل التواضع لئلا يكون من حولهم منكسر القلب يحسب أنه لا يستطيع أن يلبس مثل لباسهم أو أن يطعم مثل طعامهم، والإنسان في هذه الأمور يراعي المصالح. انتهى.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 103802 التعرض لمسألة المفاضلة بين الإعراض عن الطيبات والتمتع بها، وفيها ذكر علة تقلل بعض الصحابة كعمر بن الخطاب من الدنيا، وأن ذلك لعله بسبب ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في وصف فارس والروم: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أدرك جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم فقال: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين قرمنا -يعني اشتدت شهوتنا- إلى اللحم فاشتريت بدرهم لحماً، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا.
ثم ننبه السائل الكريم على أن حقيقة الزهد هي أن يخلو القلب مما لا ينفع في الآخرة، ويمكن أن يكون مداره على قوله تعالى: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {الحديد:23}، وقد سبق تفصيل ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 20776، 50125، 59675.
والله أعلم.