الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد حدث منك -بارك الله فيك- خلط كبير في حديثك ونقلك, ذلك أنك تحدثت أول حديثك عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة، وما كان من هبتها يومها لعائشة -رضي الله عنهما- مخافة أن يطلقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعن نزول آية سورة النساء في ذلك, ثم انتقلت بعد ذلك تتحدث عن أم المؤمنين أم سلمة وزواج النبي بها، وأنها بادئ أمرها اعتذرت بكونها غَيْرَى مصبية. وهنا خلطت بين القصتين، وجعلتهما لشخصية واحدة، وهي سودة, وهذا لا شك خلط أورثك ما أورثك من الشبه التي حيرتك.
والوقع أن التي تزوجها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي مصبية ذات ولد هي أم سلمة، فقد ورد في حديثها: أن رسول الله خطبها فقال لها فيما قال: فما يمنعك يا أم سلمة؟ قالت فيَّ خصالٌ ثلاثٌ، أما أنا فكبيرة، وأنا مطفل، وأنا غيور. فقال: أما ما ذكرت من الغيرة؛ فندعو الله حتى يذهبه عنك، وأما ما ذكرت من الكبر؛ فأنا أكبر منك، والطفل إلى الله وإلى رسوله، فنكحته. إلى آخر القصة المشهورة المذكورة في دواوين السنة، وكتب السير.
ولم يطلقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا همَّ بطلاقها، وإنما هم بطلاق سودة، ولا حرج عليه في ذلك، فالطلاق مباح للنبي؛ كما هو مباح لعامة المسلمين, والله سبحانه يقول: مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ {الأحزاب: 38}.
وأما قولك إن الآية لم تذكر الطلاق، وإنما ذكرت الإعراض فنقول: ذكر الآية لخوف النشوز والإعراض هو ذكر لخوف الطلاق بالطريق الأولى، وهذا ما يسمى بالتنبيه بالأدنى على الأعلى, وفي هذا سر بديع، ذلك أن الآية فيها تلافي أسباب الخلاف من البداية، فأرشدت المرأة إلى أنها بمجرد أن ترى من زوجها أمارات النشوز والإعراض؛ فإنها تبادر بالصلح حينئذ, لما في ذلك من تدارك الأمر، وهو في بداياته، وإلا فلو أنها تركت الأمر حتى استفحل النشوز، وتمكن الإعراض، فقد لا يجدي حينئذ الصلح، ويتعين الطلاق والفراق, ذلك أن النشوز والإعراض هو أعظم أسباب الطلاق، وأوسع أبوابه, ومما يدل على ذلك قوله سبحانه بعد ذلك: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ {النساء: 128} والمعنى خير من الطلاق والفراق؛ كما صرح بذلك جماعة من المفسرين.
قال ابن كثير في تفسيره : وَالصُّلْحُ خَيْر أي: من الفراق. انتهى.
وقال البغوي في تفسيره: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني: إقامتها بعد تخييره إياها، والمصالحة على ترك بعض حقّها من القسم والنفقة خيرٌ من الفرقة. انتهى.
وقال ابن جزي في التسهيل لعلوم التنزيل: وقيل: معناه صلح الزوجين خير من فراقهما. انتهى.
ومما ينبغي التنبه له هو أنه ليس عند كل خوف نشوز أو إعراض تسارع المرأة بالتنازل عن حقوقها، بل المقصود هنا النشوز الدائم، والإعراض المستمر.
جاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: قال الزجاج: المعنى: وإن امرأة خافت من بعلها دوام النشوز. انتهى.
وجاء في تفسير ابن كثير: فالحالة الأولى: ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها، أو يعرض عنها، فلها أن تسقط حقها أو بعضه، من نفقة أو كسوة، أو مبيت، أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها. انتهى.
وكلام جمهور المفسرين يدل على ذلك، فإنهم يذكرون في معنى الآية أنها في المرأة يبغضها زوجها، ويزهد فيها لكبر سنها، أو لدمامة خلقتها، أو شين في خلقها، أو طموح نظره لغيرها، فلا حرج حينئذ في الصلح, والصلح خير.
أما قولك: إن القرآن إنما يضع هنا علاجا للإعراض وهو الصلح، فكيف يكون علاج الإعراض إعراضا بأن تتنازل المرأة عن حقوقها، وتنازلها عن المبيت؟
فنقول: الإعراض الذي جاءت الآية لعلاجه هو الإعراض التام الدائم كما سبق بيانه آنفا, أما العلاج فهو وإن كان فيه نوع من الإعراض؛ إلا أنه إعراض جزئي أخف من الأول، وأقل منه مفسدة, فالإعراض الأول يؤدي إلى البغض والنفور، وينتهي حتما بالطلاق, أما التنازل الذي ينشأ عن الصلح، فهو على ما فيه من إعراض؛ إلا أن المرأة تتمتع فيه ببعض حقوقها، وتظل على عصمة الرجل، وفي بيته، وهذا فيه من المصلحة ما فيه، ولهذا قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية. انتهى.
إذًا فالأمر عبارة عن تعارض المفاسد: مفسدة كبرى ينشأ عنها الطلاق والفراق، ومفسدة أقل ينشأ عنها تنازل المرأة عن بعض حقوقها مع الحفاظ على عقدة النكاح، وعصمة الزوجية, ويدل لذلك ما روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- في قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا. قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل. انتهى.
وأما قولك: إن الله في هذه الآية وجه الخطاب للاثنين: فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما. فهل هذه الجملة معناها أن تتنازل الزوجة عن حقوقها؟
فنقول: لا يشترط أن يكون التنازل والبذل من جانب المرأة، بل يجوز كونه من الرجل أيضا بأن يعطيها الرجل شيئا مقابل أن تصبر على إيثاره لغيرها عليها, ولذا قال القرطبي رحمه الله في التفسير: قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة؛ بأن يعطي الزوج على أن تصبر هي، أو تعطي هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة من غير عطاء؛ فهذا كله مباح. انتهى.
وجاء في البحر المحيط لأبي حيان : فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر، أو بذل منها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة، أو على صبر على الأثرة ونحو ذلك ، فهذا كله مباح. انتهى.
والله أعلم.