الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن ما ذكره السائل عن نفسه من التحري الشديد في استحضار النية، ليدل دلالة قاطعة لا تقبل الشك ولا مجرد الفكر والمراجعة أنه نوى وأن نيته مستمرة. فما الذي يعرض لك إلا حديث نفس أو وسوسة، يريد الشيطان بها أن يوقعك في الحرج والشقة والعناء والتعب، وهذه أمور منفية في الشريعة الغراء، وقد نص القرآن على أن مراد الله الشرعي ـ وهو الذي يحبه الله ويرضاه لعباده- إنما هو التيسير ورفع الحرج عن عباده، كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ {البقرة: 185}.
وقال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ {المائدة: 6}.
وقال: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ {الحج: 78}.
وكذلك كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا. رواه البخاري.
قال ابن حجر: وَالْمَعْنَى لَا يَتَعَمَّق أَحَد فِي الْأَعْمَال الدِّينِيَّة وَيَتْرُك الرِّفْق إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ فَيُغْلَب. قَالَ اِبْن الْمُنِير: فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَم مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة, فَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى النَّاس قَبْلنَا أَنَّ كُلّ مُتَنَطِّع فِي الدِّين يَنْقَطِع.... وَفِي حَدِيث مِحْجَن بْن الْأَدْرَع عِنْد أَحْمَد: إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الْأَمْر بِالْمُغَالَبَةِ، وَخَيْر دِينكُمْ الْيَسَرَة. وَقَدْ يُسْتَفَاد مِنْ هَذَا الْإِشَارَة إِلَى الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّة، فَإِنَّ الْأَخْذ بِالْعَزِيمَةِ فِي مَوْضِع الرُّخْصَة تَنَطُّع. اهـ.
والمقصود أن ننبه السائل الكريم على أن تشديده على نفسه من هذا الباب من الوسوسة المذمومة، وهي باب مشهور للوقوع في العنت والمشقة، فلا تفتح على نفسك هذا الباب حتى لا تكون فريسة للشيطان، يلبس عليك ويصرفك عن أعمالك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. قَالَهَا ثَلَاثًا. رواه مسلم.
قال النووي: أَيْ الْمُتَعَمِّقُونَ الْغَالُونَ الْمُجَاوِزُونَ الْحُدُود فِي أَقْوَالهمْ وَأَفْعَالهمْ. اهـ.
فأفضل علاج لهذه الوسوسة هو عدم الالتفات إليها؛ لأن الاسترسال فيها سبب لرسوخها وتمكنها، وراجع علاج الوسواس القهري في الفتوى رقم: 3086 . ويمكن للفائدة مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10355، 54808، 64649.
والله أعلم.