الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد ارتكب أبوك جرما عظيما بما يفعله من محادثات مع هؤلاء النساء الأجنبيات، فإن مثل هذه العلاقات لا يختلف في إثمها وتحريمها، ولا يشك في عواقبها الوخيمة على المرء في دينه ودنياه.
ومما يبعث على الحسرة والأسى أن أمك – سامحها الله وعفا عنها – كان لها دور كبير في هذا الذي يحدث، بسبب هذا الفهم الغريب الذي يبعثها على القول بأن مثل هذه العلاقات لا حرج فيها، وأنها واجبة للتواصل مع الثقافات الأخرى!! ولا نشك أن هذا من وحي الشيطان وتزيينه لها، ولو أنها فعلت ما وعظها الله به من إنكار المنكر، وأخذت على يد زوجها لكانت قد أعذرت إلى ربها، وبرئت من ذنب زوجها، ولربما ردته بهذا عن التمادي في العصيان.
ثم إنك أيتها السائلة قد أسأت عندما تجسست على والدك، فإن التجسس حرام، وهو على الوالد أشد حظرا وإثما، وأنت بطبيعة الحال تعلمين ما يقوم به، فما الذي دعاك إلى زيادة الاستقصاء الذي أوقعك فيما أنت فيه الآن من الحسرة واليأس، بسبب ما علمت من سوء حال أبيك، وقد كنت في غنًى عن مثل هذا لو أنك نهيت نفسك عن تتبع عورات أبيك وسقطاته، خصوصا وأنت لا تملكين من الأمر شيئا.
وأما قوله حين سألته المرأة عن زوجته فأجابها بأنه مطلق، فإن كان كاذبا في قوله، فقد اختلف العلماء فيمن أقر بالطلاق كاذبا، فذهب بعضهم إلى وقوع الطلاق ديانة وقضاء، كما جاء في الفروع لابن مفلح من الحنابلة، قال: وإن سئل أطلقت زوجتك؟ قال: نعم. أو لك امرأة؟ قال: قد طلقتها يريد الكذب، وقع. انتهى.
بينما ذهب الأحناف والشافعية وغيرهم إلى أن من أقر بالطلاق كاذبا فإنه يقع قضاء لا ديانة، فتبقى زوجته في الباطن بحيث يجوز له الاستمتاع بها إذا لم يفرق بينهما القاضي.
يقول في البحر الرائق من كتب الأحناف: ولو أقر بالطلاق وهو كاذب وقع في القضاء.انتهى. وجاء في أسنى المطالب شرح روض الطالب من كتب الشافعية: وإن أقر بالطلاق كاذبا لم تطلق زوجته باطنا، وإنما تطلق ظاهرا.انتهى
والراجح هو القول الأخير القائل بوقوع ذلك قضاء لا ديانة؛ لأن الإقرار لا يقوم مقام الإنشاء، فالإقرار إخبار محتمل للصدق والكذب، يؤاخذ عليه صاحبه ظاهراً، أما ما بينه وبين الله فالمخبر عنه كذباً لا يصير بالإخبار عنه صدقاً؛ فلهذا لا يقع طلاقه باطناً.
وبناء عليه، فلم يقع بهذا القول الطلاق على أمك، إلا إذا علمت بذلك ورفعت أمرها للقضاء وأقر بهذا القول، فإنها حينئذ تطلق منه .
أما إذا قصد أبوك بهذا إيقاع الطلاق وإنشاءه فإن الطلاق حينئذ يقع عليه.
وإنا لنوصيك بكتمان أمر الطلاق هذا خاصة عن أمك وعدم إخبارها به، حفاظا على كيان الأسرة لئلا يتشتت شملها ويذهب ريحها .
ونوصيك أيضا أن تعلميها بحرمة ما تصنعه من السكوت على هذا المنكر وإقراره، وأنها شريكة لأبيك فيما يفعله، بل إنها ممالئة له على معصيته، فعليها أن تتقي الله، وأن تنكر عليه فعله، وتبذل وسعها لرده عن فعله.
ثم عليك أن تنصحي والدك وتعلميه بخطورة ما يفعله على دينه ودنياه، بل وعلى سمعة الأسرة ومستقبلها، فمثل هذه الأفعال ما أسرع ما تنتشر أخبارها بين الناس، فيعود وبال ذلك على الأسرة جميعا بالخزي والفضيحة والعار .
ولا مانع من أن تظهري لوالدك في تعاملك معه ما يشعره بأنك غير راضية عنه بسبب أفعاله، لكن حذار ثم حذار أن يصل الأمر إلى إيذائه أو إهانته لأن هذا من العقوق المحرم.
واستعيذي بالله من الشيطان الرجيم الذي يزين لك الانتحار ويغريك به، فهذا والله لهو ذنب عظيم. بل هو أكبر وأعظم من كل ما يفعله أبوك وتنكرينه عليه، لأن الانتحار دليل على يأس العبد من رحمة الله أرحم الراحمين واليأس من رحمة الله من صفات الكافرين الضالين، والعياذ بالله.
قال سبحانه: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف:87}، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {العنكبوت:23}
وقد قال صلى الله عليه وسلم: من قتل نفسه بحديدة فحديدته يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه، فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. رواه البخاري ومسلم.
فعظمي رجاءك في الله، وأيقني برحمته سبحانه التي وسعت كل شيء، وجددي صلتك به، وأكثري من الطاعات والدعاء - راغبة راهبة- أن يصرف عنك السوء والضر، وأن يحبب إليك الإيمان ويصرف عنك كيد الشيطان، ثم إن أنت قمت بواجبك من النصح والوعظ فلا يضرك ما يفعله أبوك ولا ما تكسبه أمك.
والله أعلم.