الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه القاعدة يسميها بعض الأصوليين: ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه.
وهذه القاعدة اختلف فيها الفقهاء خلافا كثيرا، فاختلفوا أولا هل ترد الأحكام على خلاف القياس أم لا؟ وهو محل اختلاف بين بعض الحنابلة وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم من جهة، وبين جمهور من أهل العلم من جهة أخرى.
ثم اختلفوا هل يقاس على ما خرج عن القياس أم لا؟
وسبب الخلاف كما قال شيخ الإسلام هو: هل ما خرج عن القياس له علة أم لا؟
وينبغي أن نوضح القاعدة أولا ثم نذكر تفصيل الكلام عليها، ففي كتاب المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران:
قول الفقهاء هذا الحكم مستثنى عن قاعدة القياس أو خارج عن القياس، أو ثبت على خلاف القياس، ليس المراد به أنه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس، وإنما المراد به أنه عدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي، فمن ذلك أن القياس يقتضي عدم بيع المعدوم وجاز ذلك في السلم والإجارة توسعة وتيسيرا على المكلفين، ومنه أن القياس أن كل واحد يضمن جناية نفسه وخولف في دية الخطأ رفقا بالجاني وتخفيفا عنه لكثرة وقوع الخطأ من الجناة.انتهـى
وقال الشيخ مصطفى الزرقا في شرح القواعد الفقهية :
قد ثبت على خلاف القياس أحكام كثيرة تفوق الحصر فيقتصر فيها على مورد النص ولا يقاس عليها غيرها
( أ ) منها الحدود فقد ورد للسارق القطع فلا يقاس عليه النباش مثلاً.
( ب ) ومنها الإجارة فإنها بيع المنافع وهي معدومة وبيع المعدوم باطل، ولكن جوزت للضرورة وهي الحاجة إليها فإن المعتمد في المذهب أن القياس يترك فيما فيه ضرورة فيقتصر فيها على موضع الحاجة ولا يقاس عليها ما لا حاجة فيه، فلا يجوز إيجار متحدي المنفعة مقايضة كسكنى دار أو حانوت بسكنى نظيره لعدم الحاجة إليها.
( ج ) ومنها المزارعة والمساقاة فإن القياس عدم جوازهما لأنهما استئجار للمزارع والمساقي ببعض الخارج من عملهما وهو منهي عنه، ولكنهما جوزتا لورود الأثر فيهما، فلا يقاس عليهما غيرهما مما فيه استئجار ببعض الخارج من العمل كعصرالزيتون والسمسم، وغزل القطن بجزء من زيته أو شيرجه أو غزله مثلاً.
( د ) ومنها التحالف فإنه ثبت في البيع على خلاف القياس إذا كان المبيع مقبوضاً فلا يقاس عليه النكاح مثلاً، أما قبل قبض المبيع فهو على القياس.
( ه ) ومنها السلم، والاستصناع، والوصية، والتتبع ينفي الحصر. انتهــى.
وقال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى:
والأحكام التي يقال إنها على خلاف القياس نوعان : نوع مجمع عليه ونوع متنازع فيه .
فما لا نزاع في حكمه تبين أنه على وفق القياس الصحيح، وينبني على هذا أن مثل هذا هل يقاس عليه أم لا ؟ فذهب طائفة من الفقهاء إلى أن ما ثبت على خلاف القياس لا يقاس عليه، ويحكى هذا عن أصحاب أبي حنيفة . والجمهور أنه يقاس عليه وهذا هو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما. وقالوا: إنما ينظر إلى شروط القياس فما علمت علته ألحقنا به ما شاركه في العلة سواء قيل إنه على خلاف القياس أو لم يقل، وكذلك ما علم انتفاء الفارق فيه بين الأصل والفرع والجمع بدليل العلة كالجمع بالعلة، وأما إذا لم يقم دليل على أن الفرع كالأصل فهذا لا يجوز فيه القياس سواء قيل إنه على وفق القياس أو خلافه، ولهذا كان الصحيح أن العرايا يلحق بها ما كان في معناها .
وحقيقة الأمر أنه لم يشرع شيء على خلاف القياس الصحيح، بل ما قيل إنه على خلاف القياس فلا بد من اتصافه بوصف امتاز به عن الأمور التي خالفها، واقتضى مفارقته لها في الحكم، وإذا كان كذلك فذلك الوصف إن شاركه غيره فيه فحكمه كحكمه وإلا كان من الأمور المفارقة له . وأما المتنازع فيه فمثل ما يأتي حديث بخلاف أمر فيقول القائلون : هذا بخلاف القياس أو بخلاف قياس الأصول وهذا له أمثلة ......
ثم أطال رحمه الله في بيان الأمثلة ومناقشتها فراجع كلامه في الفتاوى، و في كتاب إعلام الموقعين لابن القيم، وراجع الفتوى رقم: 65301.
والله أعلم.