الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يزيدك رسوخا في الدين، وثباتا على الصراط المستقيم. واعلم أيها السائل أن نعمة الهداية والتوفيق هي أعظم نعم الله على العبد، وأن من صفات المؤمن التقي أنه محب لانتشار الخير وعموم النفع بين الناس، ويبذل أعظم الوسع والجهد في سبيل ذلك، ولا عجب فهذا من أحسن الأعمال والأقوال وأحبها إلى الله سبحانه. قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {فصلت : 33} وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم. متفق عليه.
وراجع فضل الدعوة إلى الله سبحانه في الفتوى رقم: 75917.
وعليه، فالواجب عليك أن تبذل وسعك وطاقتك في هداية الناس، خصوصا من لهم عليك حقوق خاصة، كأرحامك وجيرانك، وأن ترغبهم في السير إلى الله والمسارعة إلى مغفرته ورضوانه جل وعلا، واحرص أن يكون هذا كله في جو من الرفق واللين وإظهار الحرص على نفعهم وهدايتهم، وأن تجتنب الشدة والعنف معهم، فقد قال الله سبحانه لنبيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ {آل عمران : 159}
فإن بذلت ما عليك من الوعظ والتذكير بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم تجد لكلامك أذنا واعية، وخفت إن أنت واصلت علاقتك بهم أن يضلوك أو يفسدوا أهل بيتك، فالواجب عليك حينئذ هو أن تعتزلهم جميعا، ولا يعد هذا من قطيعة الرحم، بل هذا معدود من أعظم القربات التي يتقرب بها المتقربون. قال ابن عباس: أَحِبَّ فِي اللَّهِ، وَأَبْغِضْ فِي اللَّهِ، وَوَالِ فِي اللَّهِ، وَعَادِ فِي اللَّهِ، فَإِنَّهُ لا تُنَالُ وَلاَيَةُ اللَّهِ إِلا بِذَلِكَ ؛ وَلاَ يَجِدُ رَجُلٌ طَعْمَ الإِيمَانِ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ حَتَّى يَكُـونَ كَذَلِكَ ؛ وَصَارَتْ مُؤَاخَـاةُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَـا، وَإِنَّ ذَلِكَ لا يُجْزِئ عَنْ أَهْلِهِ شَيْئًا ، ثُم قرأ : الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِـذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ { الزخرف: 67 }، وقرأ: لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {المجادلة : 22} انتهى.
وقد سبق أن بينا بالتفصيل والدليل في الفتوى رقم: 119581. أن هجر أصحاب الكبائر المصرين عليها من أعظم الطاعات، وأنه واجب أو مستحب على خلاف بين أهل العلم، هذا إذا لم يخش المسلم على نفسه أن يضلوه، فإن خاف ذلك على نفسه وأهل بيته فلا خلاف بين أهل العلم في وجوب هجرهم حينئذ، قال ابن عبد البر رحمه الله : أجمعوا على أنه يجوز الهجر فوق ثلاث، لمن كانت مكالمته تجلب نقصاً على المخاطب في دينه، أو مضرة تحصل عليه في نفسه، أو دنياه. فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية.انتهى.
والله أعلم.