الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الكلام صحيح من جهة، وخطأ من جهة، كقول بعض الناس: الإنسان مسير. وقول بعضهم: مخير. وكلا القولين خطأ من جهة الإطلاق. فإن الإنسان مسير ومخير في ذات الوقت، وهو ما عبر عنه الشرع بكونه ميسرا لما خلق له، وتفسير ذلك أن جميع ما يقوم به من أفعال هو تنفيذ لأوامر كونية قدرية سبق تحديدها، وليس بإمكانه أن يغير شيئا منها، فهو من هذا المنطلق مسير. وهو من جهة ثانية قد أعطي العقل والحواس التي يميز بها بين النافع من الضار، وأعطي الإرادة والقوة لتنفيذ ما يريد، ولم يكرهه أحد على انتهاج هذا المسلك أو ذاك، فهو بذلك مخير، فالتسيير المحض هو أن يهم بفعل فلا يجد الوسيلة لفعله، والتخيير المحض هو أن يقوم بأفعاله من غير أن تكون محددة سلفا.
وإذا اتضح ذلك، فقول القائل: (إن بأيدينا تحديد مصائرنا بتحديد وجهتنا في الدنيا) قد يراد به حق، وقد يراد به باطل، فإذا أراد قائله أن للإنسان إرادة وقوة اكتساب، بها يستطيع أن يسلك سبيل الفجار أو الأبرار، وبالتالي يستحق الثواب أو العقاب، فهذا حق، كما قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ {التكوير:28} وقال سبحانه: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً {المزمل:19}.
وأما إن أراد نفي القدر وأن الإنسان يخلق أفعال نفسه، وأن الأمر مستأنف، فهذا باطل محض، فإن القدر حق والإيمان به أحد أركان الإيمان. وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 9192، 4054، 12638.
وعلى أية حال فينبغي أن يجتنب المسلم مثل هذه الألفاظ والتعبيرات المجملة التي تحتمل حقا وباطلا، ولنا في غير ذلك من الكلام متسع ولله الحمد؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): كُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا فَلَا يُطْلَقُ إلَّا مُبَيَّنًا بِهِ الْمُرَادُ الْحَقُّ دُونَ الْبَاطِلِ، فَقَدْ قِيلَ: أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ. وَكَثِيرٌ مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا هَذَا مَعْنًى يُثْبِتُهُ، وَيُفْهَمُ مِنْهَا الْآخَرُ مَعْنًى يَنْفِيهِ. اهـ.
والله أعلم.