الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما يعرض على القلب من خواطر فاسدة على نوعين:
ـ فإما أن يكون مجرد وسوسة شيطانية مع استقرار الإيمان في القلب، فالواجب في هذه الحالة دفع الوساوس وعدم الاسترسال معها، والاستعاذة بالله، وعدم الكلام بمقتضاها.
ـ وإما أن يستقر الشك في القلب، ولا يكون مجرد حديث نفس، بل قد يترتب عليه مقتضاه من قول أو فعل فهذا هو الكفر بالله تعالى.
والنوع الأول ليس بكفر، لأنه لا اختيار للعبد فيه، بل هو شيء يهجم على القلب بغير قصد، ومن فضل الله تعالى ورحمته أن تجاوز عن ذلك ما لم يعمل به أو يتكلم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم. رواه البخاري ومسلم.
قال النووي في (الأذكار): الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل. قال العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقر. قالوا: وسواء كان ذلك الخاطر غيبة أو كفراً أو غيره، فمن خطر له الكفر مجرد خطران من غير تعمد لتحصيله ثم صرفه في الحال فليس بكافر ولا شيء عليه. انتهـى.
واهتمام الموسوس بالسؤال عن حكم ما يدور في قلبه من خواطر فاسدة دليل على كرهه وخوفه ونفوره من هذه الوساوس الشيطانية، وذلك علامة على صحة الاعتقاد وقوة الإيمان، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي: معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به، فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك. اهـ.
وأما الاسترسال مع الوسوسة فمعناه الاستمرار في التفكر فيها وعدم الانتهاء، وهذا مخالف للشرع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. متفق عليه.
قال ابن حجر: أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها. اهـ.
وقال النووي: معناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين، فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه. وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها. اهـ.
وقال البجيرمي في حاشيته على شرح الخطيب: ذكر بعضهم أن الوسوسة لا تكون إلا للكاملين، وهو غير مناف لقول الشارح: الوسوسة خبل في العقل أو جهل في الدين. لأن هذا محمول على نوع خاص من الوسوسة، وهو الاسترسال مع الوسواس، وكلام الأول يحمل على من يجاهد الشيطان في وسوسته ليثاب الثواب الكامل. اهـ.
وقد سبق لنا التنبيه على أن المرء لا يؤاخذ بالوسوسة إذا دفعها ولم يعتقدها ولم يعمل بها، في الفتويين: 122243، 103400. كما سبق لنا بيان سبل التخلص من الوسوسة وعلاجها في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 3086، 60628، 2081، 78372.
وإذا وصل المرء لدرجة الكفر وارتد عن دينه بسبب الوسوسة، فإن عقد زواجه ينفسخ، وتبين منه زوجته، ولكنه إن تاب من ردته رجعت إليه زوجته، ولا يلزم العقد بينهما على الراجح من أقوال أهل العلم، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 18293.
فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب بعد سنين على أبي العاص بالنكاح الأول ولم يحدث نكاحا. رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححه الألباني.
وينبغي أن ينتبه السائل الكريم إلى أن الوسوسة التي يصاب بها المسلم في الأعم الغالب لا تصل به إلى درجة الكفر، فعليك ـ أخي الكريم ـ أن تطرح عن نفسك هذه الوساوس وتعرض عنها.
والله أعلم.